ـ ٢ ـ
لقد كان الحسين باكر التمييز والنُّضج ، لا نردُّ ذلك إلى بُنية مُنسَّقة الاسنجام ، هي مِن نعمة باريها هِبة كريمة يتمتَّع بها وجود الإنسان ، أكثر مِمَّا نُعزِّزها ـ وهي البُنية الأصيلة ـ بتنشئة واضحة القصد ، والتوجيه ، والإحاطة ، فإذا هي طاقة مُستعجلة إلى تلبية الغاية وبلوغ المرام.
لقد كان الحسين تلك البُنية السليمة بما شعَّ عليها مِن دلائل نُبْل الفِكر والروح ، وهي كلُّها التي لمحتها عين النبيِّ الكريم مُتحدِّرة مِن صُلب عليٍّ ، فإذا هي ـ في عين الطفل وفي محياه ـ استجابة للأصل والجوهر ، وتحقيق لأشواق الحُلم الذي جاشت به تلك الليالي الصامتة : فكان الانبعاث ، وكانت الرسالة ، وكانت القضيَّة ، وكانت الوصيَّة الهاجعة في عين الحُلم.
مِن هنا كان وضوح القصد ، ومِن هنا كانت التنشئة مُعيَّنة التوجيه ، وكانت الإحاطة موحَّدة العناصر ، وحاضرة الإعداد ، وكانت البيئة ـ بحدِّ ذاتها ـ بيئة غنيَّة بمواردها الفكريَّة ـ الروحيّة ـ الأصيلة في بُعدها وجوهرها ، وتحقيقاتها الرائعة المِثال.
لقد كان كلُّ ذلك في الجوِّ الذي راح الحسين يتنفَّس فيه ، ويدرج مِن حِضن إلى حِضن ، فكيف له ـ وهو الآن في ثمانية مِن العُمر ـ أنْ لا يكون باكر النضج والتمييز؟! وكيف له أنْ لا يُدرك ـ وهو تحت عين أبيه علي وبين يديه وفي احتكاك لا يهدأ بروحه وقلبه ولسانه ـ أنَّ جدَّه الذي رجع مريضاً مِن حَجَّة الوداع ، وهو الذي أضناه التعب في الساحات الكبيرة ، التي امتصَّت فِكره وقلبه وأوصاله؟! وها هو يتركها وقد خلَّف فيها الثقلين : عترته ، ورسالة ملفوفة بكتاب ، وحُلماً أصيلاً بأنَّ الجُهد الكبير في الحياة ، هو مِن الحياة ، وأنَّ الحقَّ لا يموت ، وأنَّ الاستمرار هو الوصلة الجُلَّى ، يتنقَّل الجُهد بها وعليها إلى بقاء القيمة الخالدة في مُجتمع الإنسان.
لقد أدرك الحسين ـ وهو في بكرة طريَّة مِن العُمر ـ أنَّ جَدَّه وأباه ، هما مُحيطان في الإصابة ، وأدرك أنَّ عليه ـ مُنذ الآن ـ أنْ ينمو ويترعرع في حِضن جَدَّه الذي