غاب وبقي كامل الحضور في المسجد ـ إنَّها وصيَّته ـ لقد سمعها مِن جَدِّه وهو يتغنَّج عليه فوق منبر المسجد.
ـ ٣ ـ
ما كان أبوه علي يخرج مَرَّة إلى الساحات ويعود إلى رُكن البيت ، إلاَّ وفي جَعبته خبر ثقيل كأنَّه الرزيئة ، لقد اجتمعوا أربعتهم الليلة هذه على الحصير حول صينيَّة ، مَدَّت عليها فاطمة وجبة الطعام ، أمَّا الأب الذي كان يأكل قليلاً وهو يتحدَّث ، فإنَّه راح يوضِّح لهم قِصَّة السقيفة ، سقيفة بني ساعدة ، كيف وظَّفها عمر بن الخطاب لتُبعده عن حقيقته وحقوقيَّته في الإمارة ، وإحلال أبي بكر فيها ، كأنَّ الرضوخ لمشيئة النبي هو الخطأ ، وفي المعصية الصواب.
لقد تبسَّط أمامهم كيف أنَّ في التصرُّف هذا استدعاء أثيما لقبلية ، حاول النبي الحكيم وَأدَها وتخليص مُجتمع الأُمَّة منها ، وإذا لها الآن توَّاً ـ إثر غيابه ـ عودة إلى الأرض ، وإلى النفوس ، تنهدر بها الطاقات الفاعلة ، وينشل الزخم الواعي ، مُتلهياً بالعرض عن الجوهر. إنَّ الوحدة هي في الخطر المُداهم تحمله سياسة الزعامات!
لقد شرح لهم بعُمق وهو مُثقل المنكبين : إنَّ للأعمال الكبيرة أوقاتاً مرهونة بها ساعات مُباركة ، مقرونة بالتحفِّز والرضوان ، ولقد قطفتها ـ في حينونة ساعتها ـ نَهدة الحَقِّ بنبيِّها وبطلها الذيب ، لم تنجب صِنوه ملحمة مِن أقدس الملاحم في وجود الإنسان ، واستطرد يقول : مَن لنا الآن ، وقد غاب سيف صقيل مِن بيننا ، وفوَّتنا علينا تعهُّد ما غرسناه في البستان؟! لهفي على الرسالة ، يلزمها المَعين ، ونقطع عنها ـ وهي طريَّة ـ هذا المَعين!!!
ما كادت فاطمة تستوعب مرارة البوح حتَّى غاصت في نشيجها ، فهبَّ الحسن يُطيِّب خاطرها ويُهدئ مِن ثورة كالحة في صدرها وهو يقول : إنَّ خلف الليل هذا ـ يا أُمِّي ـ هزيعاً آخر ، لابدَّ أنْ تطيب شمسه ... فرمقه الحسين بعين سرحت منها نقطة دمٍ ، وهرول صوب الليل وهو يقول : جَدِّي ينتظرني في باحة المسجد.