إلى صدره ، مِن اتِّهامه بالأنانية ، فلصقها بالغير حتَّى تتبرَّأ مِن التُّهمَة وتنجح ، وكان أبو بكر فصيلها الأوَّل في التجربة والسَّبر ، وجَسِّ المفاصل والأنباض ، حتَّى إذا انتهى الشيخ المُسنُّ ، وكان حَدُّه قريباً جِدَّاً مِن فتحة القبر ، عادت إلى أميرها الولاية بحُكم الطبع.
هذا هو الرهان ، وقد طاب الرهان وطاب القصد مع عمر ، ألاَ تريان معي؟ أنت كبيرنا الآن يا حسن ، وأنت صغيرنا الآخر يا حسين ، وكلاكما مُتمِّم للآخر في ذِمَّتي وذِمَّة جَدِّكما الرسول. إنَّ تحليلي للواقع المُرِّ هو في حقيقة الإصابة ، وإنَّ الأُمَّة التي هي نحن في جميع تجاربها الماضية ، وفي كلِّ تحقيقاتها الحاضرة ، هي في مَهبٍّ آخر يُحاول أنْ يلفظنا ويُجرِّدنا مِن الحضور ، بينما ستندك هي رجوعاً إلى الوراء ، إلى ماضٍ كنَا جميعنا فيه الأذلاِّء الأذلاِّء!.
وتهيَّب الحسن الطرح ، والسؤال ، والجواب ـ فهو الذكيُّ المَبنيُّ بالصدق والتهذيب ـ ولقد كان يبدو وعليه هدوء رائع المثال ، وفِطنة مدهوكة بدهاء ولكنْ طيِّبة المَعدن كانت تملحها بحَذر مُتأنٍّ ، إلاَّ أنَّه حذر حكيم حليم ، يفيض عليه التصبُّر ونعمة السماح ، وكلُّها صفات يتأنَّق بها المُسالمون في مُجتمع يُحاولون أنْ يبنوه بالتؤدة ، والحُبِّ ، والسماح ، حتَّى يتخلَّص مِن الكراهيَّة ، والحِقد ، وبذر الضغائن ، وتلك هي التربية الحكيمة ، تأخذ مِن التصبُّر مداها ، ومِن الوقت بساطاً تُقدِّم عليه المُثل النظيفة ، والقدوات المُلقَّحة بالسماح ، لقد كان ـ رويداً رويداً ـ يتأكَّد للحسن أنَّ مُجتمع جَدِّه في الجزيرة كان بحاجة إلى قسوة تلحمه إلى جَمع ، وفي الوقت ذاته كان بحاجة إلى لينٍ وسماحٍ مُتعلِّقين بعَطف وغُفران ، حتَّى لا ينقصف تحت الضرب على السِّندان ، تماماً كما نهج جَدُّه عند فتحه مَكَّة. لقد كان الاجتياح وتحطيم الأصنام ، وكان ـ بالمُقابل ـ تقديم الحُبِّ والسَّماح والغُفران ، لقد غفر للأعداء ، وهم جميعهم أبناء عَمٍّ ، لقد قال لهم قوله المشهور : (أنتم الطُّلقاء) والتحمت الجزيرة كلُّها : سيف واحد يجمعها ، وحُبٌّ كريم واحد يدفعها إلى الأمام ، لقد تحفَّز الحسن وأجاب :