المُعاناة
والمُعاناة : ـ يا لها مِن عِمارة يبنيها الإنسان مِن كلِّ ضجيج يصخب به مِن نفسه وفي نفسه! إنَّها العِمارة التي يبنيها هذا الإنسان لتعود ـ هي ـ فتبنيه بالحِجارة ذاتها التي بناها ـ هو ـ بها ، أمَّا الحِجارة فهي التي تكون قد انرصَّت بها نفسه ، وروحه ، وذاته ، مِمَّا اختلط فيها وتجمَّع إليها مِن غبار الأيَّام وهي تتزاحم ـ بقوافلها ـ عابرة مِن قُطبٍ إلى قُطبٍ في وجوده الإنساني الصامد في صدر الحياة. سيكون مِن هذا الغبار تأليف المقالع المقطوعة منها حِجارة العِمارة التي أُسمِّيها الآن ، عِمارة المعاناة.
والمُعاناة : ـ بمعناها المجازي هذا تُفسرِّها الحقيقة ، بأنَّها الخُبرة الطويلة ، التي يتمرَّس بها الإنسان عِبر تطوُّره في مُجتمعاته الإنسانيَّة ، ليكون له التحقيق المُتطوِّر نتيجة حتميَّة لكلِّ ما عاناه في رحلاته المُتمادية في حِضن الكون ، إنَّ المُعاناة التاريخيَّة الطويلة هي التي تبني هذا الإنسان المُحقِّق ذاته بذاته ، وهي التي تُكيِّف روحه ، وعقله ، وفكره ، وكلُّ المُثل التي يجنيها لتكون عماده الصحيح المُعبِّر عنه في البحث ، والبناء ، والسعي إلى حقيقته المُتكاملة.
والمُعاناة : ـ بمعنى واحد هي التي تُصيب دائماً في وجود الإنسان ، وهي التي تُحدِّد حاجته ، أو بالأحرى مجاعته إلى ما ينقصه في مُشتهاه ، وهي التي تدلُّه إلى هذا المُشتهى ، وهي التي تُعيِّن له ـ في ما بعد ـ هل هو المُشتهى الجميل المُحيي ، أم أنَّه المُشتهى الخاطئ المُميت؟ إلاَّ أنَّه يبقى ـ في كلا الحالين ـ تعييناً هزَّته المُعاناة المُتولِّدة في النفس ، وحرَّكت إليه.
أمَّا المُعاناة الكبيرة التي تتولَّد في النفس وتبنيها بناءً كبيراً ، فهي لا تزال مِن الصنف الفريد ، ولا يتعزَّز وجودها ويتعيَّن إلاَّ في تفاوت نسبي يلمح في المُجتمعات