المُتطوِّرة والمُنقَّحة بالعلم والفَهم المُنعكسين حضارة وثقافة ، هنالك يكون للعقل يد ، وللروح ملامس ، ولا يكون مجال التعبير عنها إلاَّ في احترام الإنسان لذاته الجميلة ، وعندئذ فإنَّ المُجتمع هو الكريم ، والعدل والحَقِّ والمُساواة ، هي دروسه في الحقوق والموجبات ، والصدق والنزاهة ونظافة الكَفِّ ، هي كلُّها صفاته في البروز الصحيح ، واقتصاده المبنيِّ والمعنيِّ والشبعان ـ مع العِفَّة في جني الثمر ـ هي نهجه في الزرع ، وفي عمليَّات الحصاد. أمَّا المُجتمع الذي يبنيه إنساناً عظيماً يدور في حِضن الحياة مُجلَّلاً بالقيمة وعِزَّة النفس ، فهو مُداره الفخم الذي يُردُّ إليه ـ مِن مُعاناته ـ شعوراً ضمنيَّاً بأنَّ الجمال هو مُتعة النفس الكريمة التي يتعزَّز بها وجود الإنسان ، بنعمة وعظمة الحَقِّ والصدق المَغروسين في جِنان الإنسان.
والمُعاناة في الطبيعة : إنَّما هي عُنصر مِن عناصرها الجامعة ، ونَبرة مِن نبراتها المُعبِّرة في خُنوعها فجموحها ، فبُروزها في ثورة ما مِن ثوراتها التي تتنفَّس بها ، حتَّى تعود فتعتدل وتستقرُّ في بُروزٍ جديد تتولَّد منه حوملة أُخرى ، يتألَّف منها مَدار يُعينه شوق آخر مِن الأشواق التي يزخر بها فنُّ الحياة ، كلَّ هذا إنَّما هو موزَّع في الوجود ، أكان في الإنسان ، أم في الحيوان ، أم في النبات ، أم حتَّى في ما يُسمَّى جماداً ، كأنَّ المُعاناة هي التي تلمح كلَّ شيء حتَّى تُطوِّره ، وتخلق منه الحالة الأُخرى التي تشتاق إليها الحالة الأُولى التي هي حلقة منها في سلسلة الوجود. أليست هذه كلُّها هي ـ أيضاً ـ لُبعة الحياة في البقاء وتعلُّقها ـ أبداً ـ بالتطوُّر الذي هو تحوَّل يتلوَّن به جوهر الحياة في وجودها الأفسح؟
ليست المُحاولة هذه في تقديم هذه اللمحة عن المُعاناة ، غوصاً في علم النفس ، فإنَّ ذلك يتطلَّب إحاطة في الموضوع الفلسفي ، الذي يحتاج إلى تحقيقات باهرة الطرافة ، وواسعة الدرس والتدقيق ، إنَّما التلميح هذا يقصد إعطاء المُعاناة حِصَّة مِن الاهتمام والاحترام ـ فهي التي تتولَّد في نفسيَّة الإنسان ـ ومُطلق إنسان ـ وهي التي تعيُّن شوقه إلى أيِّ شيءٍ يُحرَم منه أو يحتاج إليه ، وهي التي تبنيه بناءً جديداً مُتولِّداً منها ، ومِن مُقدار ثقلها فيه وضغطها عليه ، ولا فرق أنْ يكون الحِرمان قد زال