بعد تسع سنين مِن هذا الحوار الذي نزل في أُذن الحسين كأنَّه ذِخر النفس في الإباء والصدق والعُنفوان ، أصبح عمر الحسين يدور حول العشرين ، وجاءت مَدية أبي لؤلؤة تغرز حِقدها في خاصرة ابن الخطَّاب ، وجعلته يجهض المجلس الاستشاري السُّداسي ، فإذا بالقبليَّة الجهيض يتقمَّصها مِن بعده عُثمان بن عفَّان.
٣ ـ عهد عثمان بن عفَّان :
لقد أصبحت المُعاناة عند الحسين ـ في هذا العهد الثالث مِن تألُّب الأحداث ـ كأنَّها حوملة منها ، ولا تقتات إلاّ مِن ذاتها. إنَّها ـ مع بداية إطلالته على رجولة مُكتهلة بنضجها وعُمق اختلائها بجوهر الذات ـ تفاعلٌ جديدٌ أبداً بلونه وحقيقة كشفه عن الأحداث ، وربطها بالتيَّار الفاعل الذي تصدر عنه ، وتتخبَّأ به النوايا والمقاصد ، لقد اتَّضح له الآن ـ والأحداث أمام عينيه ـ تتكرَّر حاملةً ذات المقصد ، وإنْ بنمطٍ مُنوَّعٍ بوتيرةٍ أُخرى ، إنَّ تنويع الأنماط للوصول إلى المقصد هو ذكاء الدُّهاة في استنباط الوسائل ، بتمويهها بالإخفاء والحَذر ، حتَّى لا يكون للآخرين تحضير مُعاكس يُخرِّب الطريق إلى المقصد ويمنع عنه الحصول.
لقد شرح له أبوه عليٌّ كيف كان دهاء ابن الخطاب ، في استعمال سقيفة بني ساعدة سقفاً لنمط بلغ به فنُّ الدهاء سَحْب كرسيٍّ مِن تحت صاحبها ، وتركيز دعيٍّ آخر عليها بأنَّها حَقُّه في الجلوس ، ذلك كان النمط الأوَّل في الوصول إلى الهدف ، أمَّا النمط الثاني فإنَّه امتطى البراءة وقفز بها سريعاً إلى الهدف تدليلاً بأنَّ الكرسي هي ـ حتماً ـ للجالس فيها ، وهو صاحب الرأي في منحها لمَن يُريد ، وهكذا تصرَّف أبو بكر وخلعها على ابن الخطَّاب ، أو بالأحرى ، ردَّها إليه بنمط كأنَّه زيارة ورُدَّت بزيارة ، أو كأنَّها سِلفة مُقترضة رُدَّت إلى مَن أقرضها بالشكر والامتنان ، أمَّا النمط الثالث لبلوغ القصد ، فكان مُمرَّغاً بفنٍّ مُتمتِّع بكثير مِن مظاهر الإبداع ، الذي أغرى القبائل بروح القبليَّة ، فكان المجلس الاستشاري السُّداسي ، قدَّمه ابن الخطَّاب قبل أنْ يلفظ أنفاسه ، وجيَّره إلى عُهدة عبد الرحمان بن عوف ، بعد أنْ كتب الأسماء الستَّة بحروف صغيرة ، فأكبر ، فأكبر ، على أنْ يكون انتقاء واحد مِن الستة مُشاراً