قريب تتوارى فيه ليكون ما يقوله بسمع منك. (فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ) (٢٨) أي تعرف أي شيء يرجع بعضهم إلى بعض من القول ، فأخذ الهدهد الكتاب وأتى به إلى بلقيس ، وكانت بأرض مأرب من اليمين على ثلاث مراحل من صنعاء ، فوجدها نائمة مستلقية على قفاها وقد غلّقت الأبواب ووضعت المفاتيح تحت رأسها ، فألقى الكتاب على نحرها وتوارى في الكوة فانتبهت فزعة ، فلما رأت الخاتم ارتعدت وخضعت لأن ملك سليمان كان في خاتمه ، فعند ذلك (قالَتْ) لأشراف قومها : (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ) ـ أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أن أهل مشورتها كانوا ثلاثمائة واثني عشر رجلا ـ (إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ) (٢٩) أي لأنه مكرم بختمه ، ولغرابة شأنه حيث وصل إليها على غير معتاد ، ولحسن ما فيه من كونه مشتملا على إثبات الصانع ، الحي المريد ، القادر الرحيم. وعلى النهي عن التكبر ، والأمر بالانقياد ، ولكونه من عند ملك كريم ؛ فقد عرفت أن المرسل أعظم ملكا منها. (إِنَّهُ) أي إن عنوان الكتاب (مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ) أي إن مضمونه (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (٣٠) (أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَ) فـ «أن» مفسرة ، و «لا» ناهية ، أي لا تتكبروا علي كما تفعل الملوك.
وقرأ ابن عباس «لا تغلوا» بالغين المعجمة أي لا تترفعوا علي ولا تمتنعوا من الإجابة (وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) (٣١) أي مؤمنين. (قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي) أي أجيبوني في أمري الذي حزبني وذكرت لكم خلاصته ، (ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ) (٣٢) أي عادتي معكم أن لا أفعل أمرا من الأمور المتعلقة بالملك حتى أحضركم وأشاوركم (قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ) في الأجساد والآلات (وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ) أي شجاعة مفرطة وثبات في القتال (وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ) أي هو موكول إليك ، (فَانْظُرِي) أي تأملي (ما ذا تَأْمُرِينَ) (٣٣) ، ونحن مطيعون لك فمري بنا بأمرك ، ولما أحست منهم الميل إلى الحراب لم ترض به لمّا علمت أن من سخّر له الطير على هذا الوجه لا يعجزه شيء يريده. وذلك يدل دلالة بينة على رسالة مرسلها ، بل مالت للصلح ، ولذلك بينت السبب في رغبتها فيه. (قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً) من القرى على منهاج الحراب (أَفْسَدُوها) بتخريب عمارتها وإتلاف ما فيها من الأموال (وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً) بالقتل والأسر والإجلاء وغير ذلك من فنون الإهانة. (وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) (٣٤) وهذا من جملة كلامها ذكرته توكيدا لما وصفته من حال الملوك أي إن الذين أرسلوا الكتاب يفعلون مثل الذي تفعله الملوك ، فإن ذلك عادتهم المستمرة. (إِنِّي مُرْسِلَةٌ) رسلا (بِهَدِيَّةٍ) عظيمة (فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) (٣٥).
روي أنها بعثت خمسمائة غلام عليهم ثياب الجواري ، وحليهن الأساور والأطواق ، والقرطة راكبي خيل مغشاة بالديباج ، محلاة اللجم والسروج بالذهب المرصع ، وخمسمائة جارية على رماك في زي الغلمان ، وألف لبنة من ذهب وفضة ، وتاجا مكللا بالدر والياقوت المرتفع ، وبعثت العود والمسك والعنبر ، وحقا فيه درة عذراء ، وجزعة معوجة الثقب. وبعثت