رجوعه إلى مكة ، ثم أقبل قيصر في خمسمائة ألف رومي إلى الفرس ، وظهرت الروم على فارس عند رأس سبع سنين من مناحبتهم ، ومات كسرى وذلك يوم الحديبية ، فأخذ أبو بكر الخطر من ذرية أبيّ ، وجاء به إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال له : «تصدق به» ـ وكان ذلك قبل تحريم القمار ـ وهذه الآيات تدل على علم النبي صلىاللهعليهوسلم بوقت الغلبة ، لكن لم يأذن الله تعالى في إظهاره ، لأن الكفار كانوا معاندين ، فالمعاند يرجف بوقوع الواقعة قبل الوقوع ليحصل الخلف في الكلام ، والوقت يمكن فيه الاختلاف.
وقرئ «غلبت» على البناء للفاعل و «سيغلبون» على البناء للمفعول. والمعنى : أن الروم غلبت على ريف الشام وسيغلبهم المسلمون وقد غزاهم المسلمون في السنة التاسعة من نزولها ففتحوا بعض بلادهم ، (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) أي من قبل غلبة الروم على فارس ومن بعدها فكل من كون الروم مغلوبين أولا وغالبين آخرا ، ليس إلا بأمر الله تعالى وقضائه. (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤) بِنَصْرِ اللهِ) أي ويوم إذ يغلب الروم على فارس يفرح المؤمنون بتغليب الله من له كتاب على من لا كتاب له ، ويفرحون بغلبتهم المشركين ببدر.
قال السدي : فرح النبي صلىاللهعليهوسلم والمؤمنون بظهورهم على المشركين يوم بدر ، وظهور أهل الكتاب على أهل الشرك. والجار والمجرور متعلق بـ «يفرح» (يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ) أي ينصر من عباده على عدوه من ضعيف وقوي. (وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (٥) أي وهو تعالى المبالغ في الغلبة والمبالغ في الرحمة (وَعْدَ اللهِ) مصدر مؤكد لنفسه ، أي وعدهم الله بالنصر وبالفرج وعدا ، (لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ) أيّ وعد كان مما يتعلق بالدنيا والآخرة لاستحالة الكذب عليه تعالى. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ) أهل مكة (لا يَعْلَمُونَ) (٦) وعده تعالى بنصرهم ووعد الله لا خلف فيه ، (يَعْلَمُونَ) أي أكثرهم (ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) من زخارفها وملاذها وسائر أحوالها الموافقة لشهواتهم ، ولا يعلمون باطنها ، وهي مضارها ومتاعبها وفناؤها ، (وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) (٧) أي وهم جاهلون بأمر الآخرة تاركون لعملها ولا يعلمون أن الدنيا مجاز إلى الآخرة (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ)! فلو تكفروا في أنفسهم لعلموا وحدانية الله ، وصدقوا بالحشر. أما دلالة الإنسان على الوحدانية ، فلأن الله خلقهم على أحسن تقويم ولنذكر من حسن خلقهم جزءا من ألف جزء ، وهو أن الله تعالى خلق للإنسان معدة فيها غذاؤه لتقوى به أعضاؤه ولها منفذان أحدهما لدخول الطعام فيه. والآخر : لخروجه منه ، فإذا دخل الطعام فيها انطبق المنفذ الآخر بعضه على بعض بحيث لا يخرج منه ذرة ، وتمسكه الماسكة إلى أن ينضج نضجا صالحا ، ثم يخرج من المنفذ الآخر ، وخلق تحت المعدة عروقا دقاقا ، صلابا كالمصفاة ، فينزل منها الصافي إلى الكبد ، وبنصب الثفل إلى الأمعاء ويكون مع الغذاء المتوجه من المعدة إلى الكبد فضل ماء مشروب ليرقق ، وينذرف في العروق الدقاق المذكورة ، وفي الكبد يستغنى عن ذلك الماء فيتميز