عنه ذلك الماء وينصب من جانب حدبة الكبد إلى الكلية ، ومعه دم يسير تغتذي به الكلية وغيرها ، ويخرج الدم الخالص من الكبد في عرق كبير ، ثم يتشعب ذلك النهر إلى جداول ، والجداول إلى سواق والسواقي إلى رواضع ، ويصل فيها إلى جميع البدن فهذه حكمة واحدة في خلق الإنسان ، وهذه كفاية معرفة كون الله فاعلا مختارا ، قادرا عالما ، ومن يكون كذلك يكون واحدا ، وإلا لكان عاجزا عند إرادة شريكه ضد ما أراده ، وأما دلالة الإنسان على الحشر فذلك لأنه إذا تفكر في نفسه يرى قواه صائرة إلى الزوال ، وأجزاءه مائلة إلى الانحلال ، فله فناء ضروري فلو لم يكن له حياة أخرى لكان خلقه تعالى على هذا الوجه للفناء عبثا ، لأن من يفعل شيئا للعبث لو بالغ في إتقانه يضحك منه فإذا خلق الله الإنسان للبقاء ولا بقاء دون اللقاء فالآخرة لا بد منها. (ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى) أي ما خلقها عبثا بغير حكمة بالغة ، وإنما خلقها مقرونة بالحق ، مصحوبة بالحكمة الدالة على وجود صانعها ، ووحدته ، وقدرته ، وعلمه بأجل معين قدره الله تعالى لبقائها إلى أن تنتهي إليه ، وهو وقت قيام الساعة وقوله : (إِلَّا بِالْحَقِ) إشارة إلى وجه دلالتها على الوحدانية. وقوله : (وَأَجَلٍ مُسَمًّى) إشارة إلى معاد الإنسان فإن مجازاته بما عمل من الإساءة والإحسان هو المقصود بالذات (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ) (٨) أي وإن كفار مكة لمنكرون بلقاء حسابه تعالى وجزائه بالبعث. (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي أقعد كفار مكة في أماكنهم ولم يسيروا في أقطار الأرض فيشاهدوا كيف كان جزاء الأمم الذين كذبوا رسلهم كعاد وثمود ، (كانُوا) أي من قبلهم (أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) في الجسم ، وأقدر منهم على التمتع بالحياة (وَأَثارُوا الْأَرْضَ) أي قلبوها للزراعة والغرس أكثر مما حرث أهل مكة (وَعَمَرُوها) بفنون العمارات من الزراعة والغرس والبناء وغيرها (أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها) أي أكثر مما عمر أهل مكة كما وكيفا وزمانا (وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي بالحجج الظاهرات وبالمعجزات فكذبوهم ، فأهلكهم الله. (فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) بإهلاكه إياهم (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (٩) بتكذيب الرسل (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى).
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «عاقبة» بالرفع على أنها اسم «كان» ، و «السوأى» خبرها ، وهي جهنم ، أي ثم كان آخر أمر الذين عملوا السيئات نار جهنم. وقرأ الباقون بنصب «عاقبة» على أنها خبر «كان» ، واسمها «السوأى» تأنيث الأسوأ ، أو أن كذبوا أي ثم كان تكذيبهم واستهزاؤهم آخر أمر الذين أشركوا بالله وعملوا الفعلة السوأى ، وهي اسم النار ـ كما تقدم ـ (أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ) (١٠) بدل من «السوأى». وقيل : «كذبوا» إلخ تفسير لـ «أساءوا» (اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) أي ينشئهم من النطفة ، (ثُمَّ يُعِيدُهُ) بعد الموت بالبعث (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (١١) إلى موقف الحساب والجزاء. وقرأ أبو عمرو وشعبة بالياء على الغيبة. والباقون