يَصُدَّنَّكَ عَنْها) الآية تنبيها على أن رحمته سبقت غضبه وإشارة إلى أن العبد لا بد له في العبودية من الرغبة ، والرهبة ، والرجاء ، والخوف. (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ) أي وما تلك مأخوذة بيمينك (يا مُوسى) (١٧) ، فقوله : (وَما تِلْكَ) ، إشارة إلى العصا ، وقوله : (بِيَمِينِكَ) إشارة إلى اليد.
أراد الله تعالى بالسؤال أن يثبت قلب موسى ، ويزداد علمه ، حتى إذا قلب الله تعالى العصا ثعبانا لا يخافه ولا يعتريه شك ، وكذا إذا أخرج الله من يد موسى شعاعا ، فيعرف أن ذلك بقدرة الله تعالى. والنكتة في ذلك السؤال ، أنه لما غلبت الدهشة على موسى في الحضرة ، أراد ربّ العزة إزالتها ، فسأله عن أمر لا يغلط فيه وهي العصا. كذلك المؤمن إذا مات ووصل إلى حضرة ذي الجلال ، فالدهشة تغلبه ، والحياء يمنعه عن الكلام ، فتسأله الملائكة عن الأمر الذي لم يقع الغلط فيه في الدنيا وهو التوحيد ، فإذا ذكره زالت الدهشة والوحشة عنه. (قالَ هِيَ) أي التي قارة بيميني (عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها) أي أعتمد عليها عند النهوض إلى القيام ، أو عند الإعياء ، أو عند المشي. (وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي) أي أخبط بها ورق الشجر لغنمي. وقرأ عكرمة «وأهسّ» بالسين غير المنقوطة ـ وهو زجر الغنم وتعديته بـ «على» لتضمن معنى الأنحاء والإقبال أي أزجر الغنم بها منحيا ومقبلا عليها (وَلِيَ فِيها) أي العصا (مَآرِبُ أُخْرى) (١٨) ، أي حاجات شتى.
وأجمل موسى عليهالسلام ، رجاء أن يسأله ربه عن تلك المآرب ، فيسمع كلام الله مرة أخرى ، ويطول أمر المكالمة بسبب ذلك. ثم أراد الله أن يعرّفه عليهالسلام ، أن فيها أعظم من مآربه التي هي : حمل الزاد ، والقوس ، وعرض الزند ، وإلقاء الكساء للاستظلال ، وطرد السباع وغير ذلك ، فأمره الله بإلقائها. (قالَ أَلْقِها) من يدك (يا مُوسى) (١٩) (فَأَلْقاها) من يده على الأرض ، (فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى) (٢٠).
قيل كانت العصا أول انقلابها حية صفراء صغيرة في غلظ العصا ، ثم انتفخت وتزايد جرمها ، حتى صارت ثعبانا ، فأول حالها جان ، ومآلها ثعبان. وقيل : إنها كانت من أول الأمر في شخص الثعبان ، وسرعة حركة الجان ، وكان لها عرف كعرف الفرس ، وكان بين فكّيها أربعون ذراعا ، وابتلعت كل ما مرت به من الصخور والأشجار ، حتى سمع موسى صرير الحجر في فمها ، وجوفها ، وعيناها تتّقدان كالنار ، وهي تشتد رافعة رأسها فلما عاين موسى ذلك ولى هاربا منها. (قالَ) تعالى له : (خُذْها) يا موسى بيمينك ، (وَلا تَخَفْ) منها ، (سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى) (٢١) أي سنعيدها بعد الأخذ إلى حالتها الأولى ، التي هي الهيئة العصوية.
فلما قال له ربه (لا تَخَفْ) ، ذهب خوفه حتى أدخل يده في فمها ، وأخذ بلحييها ، فعادت عصا كما كانت. (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ) أي أدخل كفك اليمنى في إبطك الأيسر وأخرجها ، (تَخْرُجْ بَيْضاءَ) أي متبرقة مثل البرق ، أو مشرقة تضيء كشعاع الشمس ، تغطي البصر عن الإدراك. ثم إذا ردّها إلى كفّه صارت إلى لونها الأول بلا نور ، (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) أي من غير برص ،