ويروى أنه لما فشا الخبر بمصر ، أن آل فرعون أخذوا غلاما في النيل وكان لا يرتضع من ثدي كل امرأة يؤتى بها ، واضطروا إلى تتبع النساء. فخرجت أخته مريم لتعرف خبره ، فدخلت قصر فرعون ، فقالت : هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم. ثم جاءت بالأم ، فقبل ثديها. فرجع إلى أمه بما لطف الله تعالى له من هذا التدبير. فذلك قوله تعالى : (فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ) ، معطوف على محذوف. أي فقالوا : دلينا على من تكفله ، فجاءت بأمك فرددناك إلى أمك. (كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها) فتطيب نفسها بلقائك ورؤيتك. (وَلا تَحْزَنَ) أي ليزول عنها الحزن بسبب عدم وصول لبن غيرها إلى باطنك ، أو كي لا تحزن أنت بفراقها.
وكانت أمه قد أرضعته ثلاثة أشهر ، أو أربعة ، قبل إلقائه في اليم. (وَقَتَلْتَ نَفْساً) قبطيا طباخا لفرعون اسمه قاب قان ، وكان عمره إذ ذاك ثلاثين سنة. (فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِ) أي من غم اقتصاص فرعون منه ، بالإنجاء منه بالمهاجرة إلى مدين ، ومن غم عقاب الله تعالى ، حيث قتله لا بأمر الله بالمغفرة ، وكان قتله للكافر خطأ. (وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً) أي أوقعناك في محنة بعد محنة ، وخلّصناك منها.
فإنه ولد في عام يقتل فيه الولدان. وألقته أمه في البحر ، والتقطه آل فرعون ، وامتنع من ارتضاع الأجانب ، وهمّ فرعون بقتله ، ووضع الجمرة في فيه ، وقتل قبطيا ، ثم هرب إلى مدين. (فَلَبِثْتَ سِنِينَ) أي مكثت عشر سنين ، (فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) وهي بلدة شعيب عليهالسلام ، على ثمان مراحل من مصر. (ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى) (٤٠) أي ثم جئت إلى المكان الذي أونس فيه النار ، ووقع فيه النداء كائنا على مقدار معين من الزمان وهو أربعون سنة ، فنبأتك وأرسلتك حينئذ. (وَاصْطَنَعْتُكَ) أي اصطفيتك (لِنَفْسِي) (٤١) بالرسالة وبالكلام. (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ) أي وليذهب أخوك إلى فرعون ، وقومه ، وبني إسرائيل ، (بِآياتِي) أي مع آياتي التي هي العصا واليد ففي كل منهما آيات شتى.
فانقلاب العصا حيوانا آية ، وكونها ثعبانا عظيما لآية أخرى ، وسرعة حركته مع عظيم جرمه آية أخرى ، ثم إنه عليهالسلام يدخل يده في فيه فلا يضره آية أخرى ، ثم انقلابه عصا آية أخرى. وكذلك اليد فإن بياضها آية ، وشعاعها آية أخرى ، ثم رجوعها إلى حالتها الأولى آية أخرى. (وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي) (٤٢) أي لا تضعفا عن تبليغ رسالتي ، فإن الذكر يطلق على كل عبادة ، والتبليغ من أعظم العبادات. (اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ).
روي أن الله تعالى أوحى إلى هارون وهو بمصر ، أن يتلقى موسى عليهالسلام (إِنَّهُ طَغى) (٤٣) أي تكبر بادعائه الربوبية ، (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً) فإن تليين القول ، مما يكسر سورة عناد العتاة ، ويلين عريكة الطغاة ، وإن فرعون كان قد ربّاه عليهالسلام ، فأمره أن يخاطبه بالرفق رعاية لتلك الحقوق. (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) (٤٤) أي قولا له قولا ليّنا على أن تكونا راجيين لأن يقبل