واعلم أن هارون عليهالسلام سلك في هذا الوعظ أحسن الطرق ، لأنه زجرهم عن الباطل :
أولا : بقوله : (إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ) ، وهو إزالة الشبهات ـ لأنه لا بدّ قبل كل شيء من إماطة الأذى عن الطريق ـ ثم دعاهم إلى معرفة الله تعالى.
ثانيا : بقوله : (وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ) ، لأنها الأصل ، وإنما خصّ هذا الموضع باسم الرحمن ، لأنه عليهالسلام كان ينبئهم ، بأنهم متى تابوا قبل الله توبتهم ، لأنه هو الرحمن كما خلصهم من آفات فرعون برحمته ، ثم دعاهم.
ثالثا : إلى معرفة النبوة بقوله : فاتبعوني ، ثم دعاهم.
رابعا : إلى الشريعة بقوله : (وَأَطِيعُوا أَمْرِي) ، ثم إنهم لجهلهم وتقليدهم قابلوا هذا الترتيب الحسن في الاستدلال ، بقولهم (لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ ، حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى) فجحدوا قول هارون كما هو عادة المقلّد. فكأنهم قالوا : لا نقبل حجّتك ، ولكن نقبل موسى.
روي أنهم لما قالوا ذلك : اعتزلهم هارون عليهالسلام ، في اثني عشر ألفا ، وهم الذين لم يعبدوا العجل. (قالَ) موسى : (يا هارُونُ) حين سمع جوابهم له وهو مغتاظ : (ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا) (٩٢) بعبادة العجل ، (أَلَّا تَتَّبِعَنِ) في حالي الغضب لله تعالى ، والمقاتلة مع من كفر به ، أي أيّ شيء دعاك إلى أن لا تتبعني في سيرتي من الأخذ على يد الظالم طوعا أو كرها ، فلم تركت قتالهم وتأديبهم ، وتركت وصيتي ، وأنت نبي الله ، وأخي ، ووزيري ، وخليفتي في قومي؟ وأثبت الياء بعد النون ابن كثير ، وقفا ووصلا ، وأثبتها نافع وأبو عمرو ، وصلا لا وقفا ، وحذفها الباقون وصلا ووقفا (أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) (٩٣) ، أي ألم تتبعني وعصيت أمري؟ وأمره عليهالسلام هو ما حكاه الله تعالى عنه في قوله تعالى : (وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) فلما أقام هارون معهم ولم يبالغ في منعهم ، نسبه إلى مخالفة أمره. (قالَ) هارون لموسى : (يَا بْنَ أُمَ) ذكر هارون أمه ، مع أن موسى أخوه الشقيق ، ترقيقا لقلبه. قرأ حمزة والكسائي بكسر الميم (لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي) ، أي ولا بشعر رأسي.
روي أن موسى عليهالسلام أخذ شعر رأس هارون بيمينه ولحيته بشماله من فرط غضبه لله. (إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ) ، برأيك بسبب القتال تفريقا لا يرجى بعده الاجتماع. (وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) (٩٤) ، أي ولم تنتظر قدومي ، فمن ذلك تركت القتال معهم. وإني رأيت أن الإصلاح ، في المداراة معهم إلى أن ترجع إليهم لتكون أنت المتدارك للأمر حسبما رأيت ، (قالَ) موسى عليهالسلام للسامري موبخا له بعد سماع الاعتذارين : (فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُ) (٩٥) أي فيما شأنك الداعي إلى ما صنعت ، وما مطلوبك مما فعلت من عبادة العجل؟ (قالَ) أي السامري مجيبا له عليهالسلام : (بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ) ، بضم الصاد فيهما. وقرأ حمزة والكسائي ، بالتاء على خطاب موسى وقومه ، أي رأيت ما لم يره بنو إسرائيل ، قال له