عندي كما يكون في الكتاب أعلم جزءا جزءا وشيئا شيئا ، (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِ) أي بالنبوة الثابتة بالمعجزات الباهرة (لَمَّا جاءَهُمْ) أي حين جاءهم منذر هو محمد صلىاللهعليهوسلم من غير تأمل وتفكر.
وقرئ «لما جاءهم» بكسر اللام على أن اللام للتوقيت ، أي وقت مجيء المنذر إياهم (فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) (٥) ، أي فهم في شأن المنذر في قول مختلف فإنهم تارة يقولون : إنه ساحر ، وأخرى شاعر ، وأخرى كاهن وأخرى مجنون.
قال الرازي : نقول كان الواجب أن ينتقلوا من الشك إلى الظن بصدقه صلىاللهعليهوسلم لعلمهم بأمانته واجتنابه الكذب طول عمره بينهم ، ومن الظن إلى القطع بصدقه لظهور المعجزات القاهرات على يديه ولسانه ، فلما غيّروا الترتيب حصل عليهم المرج ووقع الدرك مع المرج (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ) أي أعموا فلم يشاهدوا السماء كل وقت وهي ظاهرة فوق رؤوسهم غير غائبة عنهم ، (كَيْفَ بَنَيْناها) أي رفعناها بغير عمد ، (وَزَيَّنَّاها) بالكواكب (وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ) (٦) أي والحال ليس لها فتوق.
وهذا إشارة إلى وجه الدلالة فالإنسان له أساس وهي العظام التي هي كالدعامة ، وله قوى وأنوار كالسمع والبصر فبناء السماء أرفع من أساس البدن ، وزينة السماء أكمل من زينة الإنسان بلحم وشحم وليس للسماء فروج ، وللإنسان مسام ، فتأليف السماء أشد ولا شك أن التأليف الأشد كالنسج الأصفق ، والتأليف الأضعف كالنسج الأسخف ، والأول أصعب عند الناس وأعجب ، فكيف يستبعدون الأدون مع علمهم بوجود الأعلى من الله تعالى؟! (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها) أي بسطناها على الماء (وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ) أي جبالا ثوابت أوتادا لها (وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (٧) أي من لون حسن في المنظر. وهذا إشارة إلى دليل آخر يدفع قولهم ذلك رجع بعيد وهم قالوا : الإنسان إذا مات وفارقته القوى لا تعود إليه تلك القوى فنقول : الأرض أشد جمودا والله تعالى ينبت فيها أنواع النبات ، فكذلك الإنسان تعود إليه الحياة وذكر الله في الأرض ثلاثة أمور ، كما ذكر في السماء ثلاثة أمور فكل واحد في مقابلة واحد فالمد في مقابلة البناء وإثبات الرواسي في الأرض في مقابلة ركز الكواكب في السماء وشق الأرض بالإنبات في مقابلة سد الفروج إذا علمت هذا ففي الإنسان أشياء موضوعة وأشياء مرفوعة ، وأشياء ثابتة ، كالأنف والأذن ، وأشياء متحركة كالمقلة واللسان ، وأشياء مسدودة الفروج كدور الرأس ، وأشياء لها فروج كالمناخر والصماخ والفم. فالقادر على هذه الأضداد في السبع الشداد غير عاجز عن خلق نظيرها في هذه الأجساد. (تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) (٨) أي خلقنا السماء والأرض تبصيرا وتذكيرا لكل عبد مقبل إلى الله راجع إلى التفكر في بدائع صنائعه ، فإن فيهما آيات مستمرة منصوبة على مرور الزمان ، وآيات متجددة مذكرة عند التناسي ونصب الاسمين على المفعول من أجله أو على الحال أي مبصرين ومذكرين. وقرأ زيد بن علي «تبصرة وذكر» برفعهما ، أي هي تبصرة