بالكؤوس وغيرها من التحف للخدمة (غِلْمانٌ لَهُمْ) وهؤلاء الغلمان يخلقهم الله في الجنة كالحور ، ولذلك لم يقل تعالى غلمانهم وإنما قال : (غِلْمانٌ لَهُمْ) لئلا يظن أنهم الذين كانوا يخدمونهم في الدنيا ، فيخاف كل من خدم أحدا في الدنيا أن يكون خادما له في الجنة فيحزن بكونه لا يزال تابعا ، (كَأَنَّهُمْ) في بياضهم وشدة صفائهم (لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ) (٢٤) مخزون مصون من الحر والبرد ، (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) في الزيارة (يَتَساءَلُونَ) (٢٥) ، أي يسأل كل بعض منهم بعضا آخر عن أمر الدنيا ، وعن نعيم الجنة (قالُوا) أي قال كل منهم : (إِنَّا كُنَّا قَبْلُ) أي قبل دخول الجنة (فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ) (٢٦) ، أي خائفين على فوات الدنيا والخروج منها ومفارقة الإخوان فأخطأنا في ذلك. وقوله تعالى : (فِي أَهْلِنا) متعلق بمحذوف حال من الضمير في مشفقين أي حال كوننا بين أهلينا في الدنيا ، أو بيان لـ «قبل» ، أي في وقت اجتماعنا مع أهلنا (فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا) بالمغفرة ودخول الجنة ، (وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ) (٢٧) أي عذاب النار.
وقال ثعلب السموم : شدة الحر ، أو شدة البرد في النهار (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ) أي من قبل هذه الرحمة أي في الدنيا (نَدْعُوهُ) أي نسأله الحفظ من العذاب ونعبده ، (إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ) أي الصادق في وعده لنا المحسن إلينا ، (الرَّحِيمُ) (٢٨) بعباده المؤمنين.
وقرأ نافع والكسائي بفتح همزة «أنه» على تقدير كون اللام ملفوظا بها. والباقون بكسرها استئنافا على معنى التعليل ، (فَذَكِّرْ) أي عظ يا أشرف الخلق (فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) بالنبوة ورجاحة العقل ، (بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ) (٢٩) أي فلا تتغير ولا تتبع أهواءهم لقولهم لك : أنت كاهن تخبر بما في الغد ، ومجنون. (أَمْ يَقُولُونَ) أي بل أيقولون أي كفار مكة هو (شاعِرٌ) يتقول الكلام من تلقاء نفسه (نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) (٣٠) أي ننتظر بذلك الشاعر تقلبات الزمان ونزول الموت ، فإنه إن كان شاعرا فصروف الزمان قد تضعف ذهنه ، فيتبين كساد شعره. وقالوا أيضا : نتربص موته فإن أباه مات شابا ، ونحن نرجو أن يكون موته كموت أبيه ، فلا نعارضه الآن مخافة أن يغلبنا بقوة شعره ، وجملة «نتربص» نعت لـ «شاعر». (قُلْ) يا أشرف الخلق لهؤلاء الكفار : (تَرَبَّصُوا) أي انتظروا موتي ـ وهذا أمر تهديد ـ (فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ) (٣١) أي فإني أتربص هلاككم ، وقد أهلكوا في يوم بدر وفي غيره من الأيام ويقال إن معنى هذه الآية أني أخاف الموت ولا أتمناه لا لنفسي ولا لأحد وإنما أنا نذير ، فتربصوا موتي وأنا متربصة ولا يسركم ذلك لعدم حصول ما تتمنون بعدي ، (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) (٣٢) أي أتأمرهم عقولهم بهذا المقال المتناقض فإنهم قالوا في حق الرسول : هو كاهن مجنون شاعر ، فإن الكاهن ذو دقة نظر في الأمور ، والمجنون مختل فكره ، والشاعر ذو كلام موزون متسق ، فكيف يجتمع أوصاف هؤلاء في واحد! بل هم قوم مجاوزون الحدود في العناد لا يحومون حول السداد. ولذلك يقولون : أكاذيب خارجة عن دائرة العقول. وقرئ «بل هم». (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ) أي بل يقولون :