(وَرَحْمَةً) ، عظيمة كائنة (مِنَّا) عليهم يهتدون بهدايته ، (وَكانَ) ، أي خلق الولد بلا أب ، (أَمْراً مَقْضِيًّا) (٢١) أي لا يتغيّر. فلو لم يقع لا نقلب علم الله جهلا وهو محال. وجميع الممكنات منتهية في سلسلة القضاء إلى واجب الوجود ، وإذا كان الأمر كذلك ، فلا فائدة في الحزن ، وهذا هو سرقوله صلىاللهعليهوسلم : «من عرف سر الله في القدر هانت عليه المصائب». (فَحَمَلَتْهُ) أي فنفخ جبريل في طوق قميصها نفخة وصلت إلى فرجها ، ودخلت منه جوفها فحملته في الحال ، (فَانْتَبَذَتْ بِهِ) أي فاعتزلت وهو في بطنها ، (مَكاناً قَصِيًّا) (٢٢) ، أي بعيدا من الناس.
قال وهب : إن مريم لما حملت بعيسى ، كان معها ابن عم لها يقال له : يوسف النجار ، وكانا منطلقين إلى المسجد الذي عند جبل صهيون ، وكان يوسف ومريم يخدمان ذلك المسجد ، ولا يعلم في أهل زمانهما أحد أشد عبادة منهما. وأول من علم حمل مريم هو يوسف ، فتحيّر في أمرها فكلما أراد أن يتهمها ذكر عبادتها ، وأنها لم تغب عنه ساعة قط. وإذا أراد أن يبرّئها رأى الذي ظهر بها من الحمل.
فأول ما تكلم به أن قال : قد وقع في نفسي من أمرك شيء وقد حرصت على كتمانه ، فغلبني ذلك ، فرأيت أن الكلام فيه أشفى لصدري ، فقالت : قل قولا جميلا. قال : أخبريني يا مريم ، هل ينبت زرع بغير بذر؟ وهل تنبت شجرة من غير غيث؟ وهل يكون ولد من غير ذكر؟ قالت : نعم ، ألم تعلم أن الله أنبت الزرع يوم خلقه من غير بذر وهذا البذر إنما حصل من الزرع الذي أنبته من غير بذر ، ألم تعلم أن الله تعالى أنبت الشجرة من غير غيث؟ وبالقدرة جعل الغيث حياة الشجر ، بعد ما خلق كل واحد منهما على حدة ، أو تقول أن الله تعالى لا يقدر على أن ينبت الشجرة حتى استعان بالماء ، ولو لا ذلك لم يقدر على إنباتها.
فقال يوسف : لا أقول هذا ولكني أقول : إن الله قادر على ما يشاء ، فيقول له : كن فيكون. فقالت له مريم : ألم تعلم أن الله تعالى خلق آدم وامرأته من غير ذكر ولا أنثى؟ فعند ذلك زالت التهمة عن قلبه.
وكان ينوب عنها في خدمة المسجد لاستيلاء الضعف عليها بسبب الحمل ، وضيق القلب ، فلما دنت ولادتها ، أوحى الله إليها أن اخرجي من أرض قومك ، فخرجت أقصى الدار. (فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ) أي فألجأها وجع الولادة (إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ) أي إلى أصل نخلة يابسة لا رأس لها ، وكان الوقت شتاء شديد البرد ، فلما اعتمدت عليه بصدرها اخضر ، وأطلع الجريد ، والخوص ، والثمر رطبا في وقت واحد ، كما أن حمل عيسى وتصويره وولادته في وقت واحد.
وكأن الله أرشدها إلى النخلة ليريها من آياته ما يسكن روعتها ، وليطعمها الرطب ، الذي هو أشد الأشياء موافقة للنفساء فهو خرسة لها ، ولأن النخلة من أقل الأشجار صبرا على البرد ،