روي أن الله تعالى بنى جنة الفردوس لبنة من ذهب ، ولبنة من فضة وجعل خلالها المسك الأذفر ، وغرس فيها من جيد الفاكهة وجيد الريحان. وروى أبو أمامة عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «سلوا الله الفردوس فإنها أعلى الجنان وإن أهل الفردوس يسمعون أطيط العرش» (١). وسمى استحقاقهم الفردوس إرثا بأعمالهم بحسب وعده تعالى ، لأن انتقال الجنة إليهم بدون محاسبة ومعرفة بمقاديرها (هُمْ فِيها) أي الفردوس (خالِدُونَ) (١١) لا يموتون ولا يخرجون منها أبدا. (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) أي جنس الإنسان (مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) (١٢) أي من خلاصة كائنة من طين (ثُمَّ جَعَلْناهُ) أي السلالة (نُطْفَةً) أي منيا ، أربعين يوما (فِي قَرارٍ مَكِينٍ) (١٣) أي مكان حريز. فإن الله تعالى خلق جوهر الإنسان أولا طينا ، ثم جعل جوهره بعد ذلك نطفة في صلب الأب فقذفه الصلب بالجماع إلى رحم الأم فصار الرحم مستقرا حصينا لهذه النطفة (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً) أي ثم صيرنا المني الأبيض دما جامدا أربعين يوما ، (فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً) أي ثم صيرنا الدم الجامد الأحمر لحما صغيرا ، مقدار ما يمضغ أربعين يوما (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً) أي فصيرنا اللحم الصغير عظاما بلا لحم بأن صلبناها وجعلناها عمودا للبدن على هيئات مخصوصة من رأس ورجلين وما بينهما. (فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً) وشددناها بالأعصاب والعروق. فاللحم يستر العظام كالكسوة.
وقرأ ابن عامر وأبو بكر «عظما» و «العظم» بالإفراد في الموضعين. (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) أي حولنا العظام المستورة باللحم عن صفاتها إلى صفة لا يحيط بها شرح الشارحين فإن الله جعلها حيوانا ناطقا ، سميعا بصيرا ، عاقلا. وأودع كل جزء من أجزائه عجائب وغرائب لا يحيط بها وصف الواصفين (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) (١٤) أي فتعالى شأن الله تعالى أتقن المحولين (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ) أي التركيب بالأمور العجيبة (لَمَيِّتُونَ) (١٥) أي لصائرون إلى الموت.
وقرأ ابن أبي عبلة وابن محيص «لمائتون». (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي عند النفخة الثانية (تُبْعَثُونَ) (١٦) من قبوركم للحساب والمجازاة بالثواب والعقاب. (وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ) أي سبع سموات طرائق بعضها فوق بعض وإنما قيل للسموات : طرائق لتطارقها ، أي لكون بعضها موضوعا فوق بعض طاقا فوق ، كمطارقة النعل. فجعل الله في السموات موضعا لأرزاقنا بإنزال الماء منها. وكان نزول الوحي ومقرا للملائكة (وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ) (١٧) بل كنا حافظين لهم عن أن تسقط عليهم الطباق السبع فتهلكهم ، ولسنا تاركين لهم بلا أمر ولا نهي ،
__________________
(١) رواه الحاكم في المستدرك (٢ : ٣٧١) ، والطبراني في المعجم الكبير (٨ : ٢٩٤) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (٣١٨٤) ، بما معناه.