ووجه الثاني : انتقال حكم السفر ، ومن ثَمَّ وجب الإتمام ما دام كذلك ، وللرجوع حكم آخر ، وحيث أسلفنا أنّ المعتبر صدق اسم الكثرة والمعنى الموجب كذلك فهو المحكّم في هذه الموارد. ولعلّ اعتبار الصلاة تماماً أو ما في حكمها أقوى.
بقي هاهنا بحث ، وهو : أنّ الأصحاب رضوان الله عليهم قد عدّوا في كثير السفر البدويّ الذي يطلب القطر والنبت ، والتاجر المنتقل من سوق إلى سوق وجملةَ ما تقدّم ؛ استناداً إلى الروايات التي دلّت عليهم ، بل تلك الألفاظ المنقولة في عباراتهم هي لفظ الروايات.
وفي دلالتها على ذلك نظر ، بل الظاهر منها في كثير من هذه الأفراد أنّ الموجب لإتمامهم ليس هو كثرة السفر بل ولا صدق أصل السفر ، وإنّما هو عدم القصد إلى المسافة ، أو عدم صدق اسم المسافر عليهم ، كما هو الظاهر من حال البدويّ والراعي والأمير الذي يدور في إمارته من بلدٍ إلى آخر ، والتاجر الذي يدور في تجارته من سوق إلى سوق ، فإنّ هؤلاء لا يقصدون المسافة غالباً وإن اتّفق لهم سلوكها ، والأخبار إنّما دلّت على أنّ هؤلاء فرضهم الإتمام ، والأمر فيه كذلك ، لكن لا يتعيّن كونه لهذه العلّة وإن أمكن في بعض أسفارهم حصولها.
وممّا يدلّ على أنّ حكم المذكورين في الخبر ليس على وتيرة واحدة : أنّ الباقر عليهالسلام عدّ من السبعة الذين لا يقصّرون «المتصيّد لهواً ، والمحارب الذي يقطع السبيل» (١) مع أنّ المانع من قصر هذين هو المعصية لا الكثرة. وروى محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهماالسلام ، قال المكاري والجمّال إذا جدّ بهما السير فليقصّرا (٢). ومثله روى الفضل بن عبد الملك عن الصادق عليهالسلام (٣) ، وقد اختلف في تنزيلهما.
وعلى ما ذكرناه يمكن حمل الجدّ في السير على قصد المسافة قبل تحقّق الكثرة بمعنى أنّ سفرهما وإن كان أوّلاً إلى مسافة غير مقصودة لا يقصّران فإذا قصدا المسافة ، قصّرا ، والجدّ كناية عن ذلك.
__________________
(١) الفقيه ١ : ٢٨٢ / ١٢٨٢ ؛ التهذيب ٣ : ٢١٤ / ٥٢٤ ؛ الاستبصار ١ : ٢٣٢ / ٨٢٦.
(٢) التهذيب ٣ : ٢١٥ / ٥٢٨ ؛ الاستبصار ١ : ٢٣٣ / ٨٣٠.
(٣) التهذيب ٣ : ٢١٥ / ٥٢٩ ، و ٤ : ٢١٩ / ٦٣٨ ؛ الاستبصار ١ : ٢٣٣ / ٨٣١.