بالشرائع التي وضعها ... وكذلك إذا حدثت الفلسفة احتاج أهلها ضرورة إلى أن ينطقوا عن معان لم تكن عندهم معلومة قبل ذلك ، فيفعلون فيها أحد ذينك» (١).
ومفاد عملية النطق بالمعاني الفلسفية استخدام ألفاظ مستحدثة تخصّ هذه المعاني ، أو نقل أسماء قريبة الشبه في دلالاتها إلى هذه المعاني. وفي الحالين اعطاء لفظ محدد لمعنى فلسفي محدّد (٢). إلا أنّ العملية هنا تتميّز فيها العربية بخصوصياتها اللسنية ، في كونها غير قابلة على احداث قطع معرفي بين اللفظ وأصله أو جذره ، فعلا أو مصدرا ، سيرورة دلالية أو بنية معرفية مضمرة. فهي أشبه بتكوين عضوي منها إلى آلية.
وقيل بحسب ما يتابع الجرجاني في التعريفات : «والاصطلاح إخراج الشيء عن معنى لغوي إلى معنى آخر لبيان المراد». وهذا الأمر يشير إلى دخول مصطلحات الصوفية وبعض التعابير الفلسفية والحكمية بمعانيها الخاصة ، وإلباسها أسماء وألفاظ عربية. وهذا الأمر حدث في العربية وضمن التاريخ الاسلامي ، وكان يحمل في باطنه اسقاطات لمعاني فارسية زرادشتية ومانوية ، ولمعاني أفلاطونية محدثة ملفّقة من شوائب هرمسية ويونانية قديمة وغنوصية ، بيد أن العاملين في المجال العقلي أو البياني تنبّهوا للمسألة ولفتوا النظر إليها.
ففي المجال البياني قيل : «لا يحل لأحد صرف لفظة معروفة المعنى في اللغة عن معناها الذي وضعت له في اللغة التي بها خاطبنا الله تعالى في القرآن ، إلى معنى غير ما وضعت له ، إلا أن يأتي نص قرآن أو كلام عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أو إجماع من علماء الأمة كلها على أنّها مصروفة عن ذلك المعنى إلى غيره ، أو يوجب صرفها ضرورة حسن أو بديهة عقل ...» (٣).
وفي المجال العقلي لم يلبث ابن باجة (٤٧٥ ـ ٥٣٣ ه) أن شرح بعد العقل الذي شقته التجربة المغربية العربية ، فيذكر في (تدبير المتوحد) ، أنّ التوحّد مميّز من التصوف. فالتوحّد سلوك عقلي يهدف إلى اكتساب المعرفة النظرية ومركز الإنسان فيه. إنّ الكشف الصوفي مجرّد وهم وحالة نفسية ناتجة عن تجنيد قوى النفس الثلاث
__________________
(١) الفارابي ، كتاب الحروف ، تحقيق محسن مهدي ، بيروت ، دار المشرق ، ١٩٧٠ ، ص ١٥٧.
(٢) جهامي ، جيرار ، الاشكالية اللغوية في الفلسفة العربية ، بيروت ، دار المشرق ، ١٩٩٤ ، الفصل الأول.
(٣) ابن حزم ، الفصل في الملل والأهواء والنحل ، طبعة مصر ، مجهول ، ج ٣ ، ص ٥٠.