واللغة والفكر ، إذ لم يبت أحد من اللغويين العرب ، ولا من خاض أبحاثا في الألسنية المعاصرة ، بالتصريح حاسما أولوية أحدهما على الآخر. فهل اللفظ يتولّد عقب ممارسة التفكير؟ وتلحق به أوجه البيان والنحو حيث ينتقل الفكر ويسود. أم أن اللغة قوالب يشكّل فيها الفكر؟ ويرى هردر (١٨٠٣ ـ ١٧٤٤ Herder) أنّ اللغة ليست أداة للفكر وحسب ، بل هي أيضا القالب الذي يتشكّل فيه الفكر. كما «أنّ لغة جماعة أنسية ما تفكر داخل اللغة وتتكلم بها ، هي المنظّم لتجربتها ، وهي بهذا تصنع عالمها وواقعها الاجتماعي ... إن كل لغة تحتوي على تصوّر خاص بها للعالم» (١). وهذه المسألة تتعلّق بالرباط شكلا ودلالات ، مبنى ومعنى ، وبين المعرفة بوصفها بنيانا يشيّد العالم على أساس من التصور والنظم ، ويفسّر الظواهر تبعا لأنساق تتضافر مكوّنة النظام الطبيعي والانساني. علما أنّ المسلمين حاولوا تلافي هذا التباين في ازدواجية الفكر واللغة ، فعملوا على الصهر بينهما» لأنّ حقائق المعاني لا تثبت إلا بحقائق الألفاظ ، فإذا تحرّفت المعاني فكذلك تتزيّف الألفاظ ، فالألفاظ والمعاني متلاحمة متواشجة متناسجة» (٢). ولكن ذهب البعض إلى سبق التفكير للنظم في اللغة ، مما أكّد على أنّ نظم الكلمات يخضع لانتظام معانيها في العقل ، «فليس الغرض بنظم الكلم إن توالت ألفاظها على النطق ، بل إن تناسقت دلالتها وتلاقت معانيها على الوجه الذي يقتضيه العقل.» (٣)
وعقب هذه العجالة والحجاج نخلص إلى توليفة نتحدث بها عن المصطلح الذي يشيّد على أساس المعنى والمبنى. أما المعنى فميدانه العقل الانساني المتفرّد والميدان المعرفي المتمثل بهذا الجمع من النظريات والآراء ، والأفكار القائمة أو السائدة في معارف الناس جهارا أو خفية ، وعيا أو لا وعيا. وأما المبنى فمجاله بنية اللغة تركيبا وقوالبا ، نشوءا وتقعيدا ، إنشاء وعلاقات ، نحوا وتفنينا ـ جناس بديع كناية تورية ـ أصواتا ودلالية ما.
وإذا أمعنا النظر نجد علاقة تفاعلية تبادلية بين الاثنين ، فالمعنى ينصاغ باللغة ، بحيث يتقولب فيها ، أي تضفي عليه خصوصيتها التركيبية وخلفيتها المعرفية ، واللغة تتحدّد بالمعنى الذي يؤثّر فيها تبعا للعقل العارف الذي أنشأ المعنى ، وللذهنية التي ولّدته. ولا سيما أنّ اللغة انبنت تبعا لذهنية مستعمليها والناطقين بها ، فحملت
__________________
(١) Shaft, Adam, Langage et connaissance, Paris, Anthropos,١٩٦٧.p. ٦.
(٢) التوحيدي ، أبو حيان ، البصائر والذخائر ، دمشق ، مطبعة الارشاد ، ١٩٦٤ ، ج ٣ ، ص ٤٩.
(٣) الجرجاني ، عبد القاهر ، دلائل الاعجاز ، ج ٢ ، ص ٤٧.