وفائدة علم الكلام وغايته الترقّي من حضيض التقليد إلى ذروة الايقان وإرشاد المسترشدين بإيضاح الحجّة لهم ، والزام المعاندين بإقامة الحجة عليهم ، وحفظ قواعد الدين عن ان يزلزلها شبهة المبطلين ، وأن تبتنى عليه العلوم الشرعية ، أي يبتنى عليه ما عداه من العلوم الشرعية ، فإنه أساسها وإليه يؤول أخذها واقتباسها ، فإنه ما لم يثبت وجود صانع عالم قادر مكلّف مرسل للرسل منزل للكتب لم يتصوّر علم تفسير ولا علم فقه وأصوله ، فكلّها متوقفة على علم الكلام مقتبسة منه ، فالآخذ فيها بدونه كبان على غير أساس ، وغاية هذه الأمور كلها الفوز بسعادة الدارين.
ومن هذا تبيّن (١) مرتبة الكلام أي شرفه فإن شرف الغاية يستلزم شرف العلم ، وأيضا دلائله يقينية ، يحكم بها صريح العقل وقد تأيّدت بالنقل ، وهي أي شهادة العقل مع تأيّدها بالنقل هي الغاية في الوثاقة إذ لا تبقى حينئذ شبهة في صحة الدليل. وأما مسائله التي هي المقاصد فهي كلّ حكم نظري لمعلوم ، هو أي ذلك الحكم النظري من العقائد الدينية ، أو يتوقف عليه إثبات شيء منها. والكلام هو العلم الأعلى إذ تنتهي إليه العلوم الشرعية كلّها ، وفيه تثبت موضوعاتها وحيثياتها ، فليست له مباد تبين في علم آخر شرعيا أو غيره ، بل مباديه إمّا مبيّنة بنفسها أو مبيّنة فيه. فهي أي فتلك المبادئ المبيّنة فيه مسائل له من هذه الحيثية ومباد لمسائل أخر منه لا تتوقّف عليها ، لئلاّ يلزم الدور ، فلو وجدت في الكتب الكلامية مسائل لا يتوقّف عليها إثبات العقائد أصلا ولا دفع الشّبه عنها ، فذلك من خلط مسائل علم آخر به تكثيرا للفائدة في الكتاب. فمن الكلام يستمدّ غيره من العلوم الشرعية وهو لا يستمد من غيره أصلا ، فهو رئيس العلوم الشرعية على الإطلاق. بالجملة ، فعلماء الإسلام قد دوّنوا لإثبات العقائد الدينية المتعلّقة بالصانع وصفاته وأفعاله ، وما يتفرّع عليها من مباحث النبوّة والمعاد ، علما يتوصّل به إلى إعلاء كلمة الحقّ فيها ، ولم يرضوا أن يكونوا محتاجين فيه إلى علم آخر أصلا ، فأخذوا موضوعه على وجه يتناول تلك العقائد ، والمباحث النظرية التي تتوقف عليها تلك العقائد سواء كان توقّفها عليها باعتبار موادّ أدلتها أو باعتبار صورها ، وجعلوا جميع ذلك مقاصد مطلوبة في علمهم هذا ، فجاء علما مستغنيا في نفسه عمّا عداه ، ليس له مباد تبين في علم آخر.
وأمّا وجه تسميته بالكلام فلأنه يورث قدرة على الكلام في الشرعيات ، أو لأنّ أبوابه عنونت أولا بالكلام في كذا ، أو لأنّ مسألة الكلام أشهر أجزائه ، حتى كثر فيه التقاتل. وأما تسميته بأصول الدين فلكونه أصل العلوم الشرعية لابتنائها عليه ؛ وعلى هذا القياس في البواقي من أسمائه ، هذا كله خلاصة ما في شرح المواقف ، ومنها :
علم التفسير :
وهو علم يعرف به نزول الآيات وشئونها وأقاصيصها والأسباب النازلة فيها ، ثم ترتيب مكّيها ومدنيّها ، ومحكمها ومتشابهها ، وناسخها ومنسوخها ، وخاصّها وعامّها ، ومطلقها ومقيّدها ، ومجملها ومفسّرها ، وحلالها وحرامها ، ووعدها ووعيدها ، وأمرها ونهيها ، وأمثالها وغيرها. وقال أبو حيان (٢) : التفسير علم يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن ومدلولاتها وأحكامها الإفرادية
__________________
(١) يتبين (م).
(٢) أبو حيان : هو محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان الغرناطي الأندلسي الجيّاني ، اثير الدين أبو حيان. ولد بجهة غرناطة عام ٦٥٤ هـ / ١٢٥٦ م وتوفي بالقاهرة عام ٧٤٥ هـ / ١٣٤٤ م. من كبار العلماء بالعربية والتفسير