على علّة بيان لأنّ جميع ذلك دليل ، وإن كان بعضها يفيد غلبة الظنّ فهو من حيث أنه يفيد العلم بوجوب العمل دليل وبيان.
التقسيم
البيان بالاستقراء عند الأصوليين على خمسة أوجه : بيان تقرير وبيان تفسير وبيان تغيير وبيان تبديل وبيان ضرورة. والإضافة في الأربعة الأول إضافة الجنس إلى نوعه كعلم الطب ، أي بيان هو تقرير ، والإضافة في الأخير إضافة الشيء إلى سببه اي بيان يحصل بالضرورة. وقد يقال بيان مقرّر ومفسّر ومغيّر ومبدّل ، وذلك لأنّ البيان إمّا بالمنطوق أو غيره ، الثاني بيان ضرورة وبالعقل أيضا ، والأوّل إمّا أن يكون بيانا لمعنى الكلام أو اللازم له كالمدة ، الثاني بيان تبديل ويسمّى بالنسخ أيضا ، والأوّل إمّا أن يكون بلا تغيير أو مع تغيير ، الثاني بيان تغيير كالاستثناء والشرط والصفة والغاية والتخصيص ، والأول إمّا أن يكون معنى الكلام معلوما ، لكن الثاني أكّده بما يقطع الاحتمال أو مجهولا كالمشترك والمجمل ، الثاني بيان تفسير والأول بيان تقرير.
إن قيل الغاية أيضا بيان لمدّة فكيف يصح جعلها بيانا لمعنى الكلام لا للازمه؟. قلنا النسخ بيان لمدّة بقاء الحكم لا لشيء هو من مدلول الكلام ومراد به بخلاف الغاية ، فإنّها لمدّة معنى هو مدلول الكلام حتى لا يتمّ بدون اعتباره مثل (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) (١) ، فلذا جعلت بيانا لمعنى الكلام دون مدّة بقاء الحكم المستفاد من الكلام. وبعضهم جعل الاستثناء بيان تغيير والتعليق بالشرط بيان تبديل ولم يجعل النسخ من أقسام البيان لأنّه رفع للحكم لا إظهار للحكم الحادث. قيل ولا يخفى أنه إن أريد بالبيان مجرّد إظهار المقصود فالنسخ بيان وكذا غيره من النصوص الواردة لبيان الأحكام ابتداء وإن أريد إظهار ما هو المراد من كلام سابق فليس ببيان. وينبغي أن يراد إظهار المراد بعد سبق كلام له تعلّق به في الجملة ليشتمل النسخ دون النصوص الواردة لبيان الأحكام ابتداء.
وبعضهم زاد قسما سادسا وقال البيان إمّا بلفظي أو غيره ، وغير اللفظي كالفعل ، واللفظي إمّا بمنطوقه أو لا إلخ. وبالجملة فبيان التقرير هو توكيد الكلام بما يقطع احتمال المجاز أو الخصوص كما في قوله تعالى (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) (٢). وحرف في هاهنا بمعنى على كما في قوله تعالى (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) (٣). فالدّابّة لا تكون إلاّ على الأرض لأنها مفسّرة بما يدبّ على الأرض ، لكن يحتمل المجاز بالتخصيص بنوع منها لأنها نقلت أولا في ذوات أربع قوائم ، ثم نقلت ثانيا فيما يركب عليه من الفرس والإبل والحمار والفيل ، ثم نقلت ثالثا في الفرس خاصة. فلقطع هذا الاحتمال قال الله تعالى في الأرض ليفيد شمول جميع أجناسها وأنواعها وأصنافها وأفرادها. وكذلك جملة يطير بجناحيه فإنّ حقيقة الطّير أن لا يكون إلاّ بالجناح ، لكن يحتمل غيره كما يقال : المرء يطير بهمته ، فزاد قوله يطير بجناحيه ليقطع احتمال التجوّز وليفيد العموم. وكما في قوله تعالى (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) (٤) وبيان التفسير هو بيان ما فيه خفاء من المشترك والمجمل والمشكل والخفي ، وكلاهما يصحّ
__________________
(١) البقرة / ١٨٧.
(٢) الانعام / ٣٨.
(٣) النمل / ٦٩ ، العنكبوت / ٢٠ ، الروم / ٤٢.
(٤) الحجر / ٣٠.