ثم اعلم أنّ الروح هو الجوهر العلوي الذي قيل في شأنه (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) (١) يعني أنّه موجود بالأمر وهو الذي يستعمل في ما ليس له مادة فيكون وجوده زمانيّا لا بالخلق ، وهو الذي يستعمل في مادّيات فيكون وجوده آنيا. فبالأمر توجد الأرواح وبالخلق توجد الأجسام المادية. قال الله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) (٢). وقال (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ) (٣).
والأرواح عندنا أجسام لطيفة غير مادية خلافا لفلاسفة فإذا كان الروح غير مادي كان لطيفا نورانيا غير قابل للانحلال ساريا في الأعضاء للطافته ، وكان حيا بالذات لأنّه عالم قادر على تحريك البدن. وقد ألّف الله [بين] (٤) الروح والنفس الحيوانية. فالروح بمنزلة الزوج والنفس الحيوانية بمنزلة الزوجة وجعل بينهما تعاشقا. فما دام في البدن كان البدن حيا يقظان ، وإن فارقه لا بالكلّية بل تعلقه باق [ببقاء النفس الحيوانية] (٥) كان البدن نائما ، وإن فارقه بالكليّة بأن لم تبق النفس الحيوانية فيه (٦) فالبدن ميّت.
ثم هي أصناف بعضها في غاية الصّفاء وبعضها في غاية الكدورة وبينهما مراتب لا تحصى. وهي حادثة ؛ أمّا عندنا فلأنّ كل ممكن حادث لكن قبل حدوث الأجسام لقوله عليه الصلاة والسلام : «خلق الأرواح قبل الأجسام بألفي عام» (٧). وعند أرسطو حادثة مع البدن. وعند البعض قديمة لأنّ كل حادث مسبوق بالمادة ولا مادة له وهذا ضعيف. والحق أنّ الجوهر الفائض من الله تعالى المشرّف بالاختصاص بقوله تعالى (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) (٨) الذي من شأنه أن يحيى به ما يتّصل به لا يكون من شأنه أن يفنى مع إمكان هذا. والأخبار الدالّة على بقائه بعد الموت وإعادته في البدن وخلوده دالّة على بقائه وأبديته. واتفق العقلاء على أنّ الأرواح بعد المفارقة عن الأبدان تنقل إلى جسم آخر لحديث : «أنّ أرواح المؤمنين في أجواف طير خضر» (٩) إلى آخره. وروي : «أرواح الشهداء» (١٠) الخ. ومنعوا لزوم التناسخ لأنّ لزومه على تقدير عدم عودها إلى جسم نفسها الذي كانت فيه وذلك غير لازم ، بل إنّما يعاد الروح في الأجزاء الأصلية ، إنّما التغيّر في الهيئة والشكل واللون وغيرها من الأعراض والعوارض.
ولفظ الروح في القرآن جاء لعدة معان. الأول ما به حياة البدن نحو قوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) (١١). والثاني بمعنى الأمر نحو (وَرُوحٌ مِنْهُ) (١٢) والثالث بمعنى الوحي
__________________
(١) الاسراء / ٨٥.
(٢) الروم / ٢٥.
(٣) الأعراف / ٥٤.
(٤) [بين] (م ، ع).
(٥) [ببقاء النفس الحيوانية] (+ م ، ع).
(٦) [بأن لم تبق النفس الحيوانية فيه] (+ م ، ع).
(٧) كشف الخفاء للعجلوني ١ : ٢٦٥ ، وبرواية أخرى : خلق الله الأرواح قبل الأجساد : في الحاوي للفتاوي للسيوطي ١ : ٥٧٢.
(٨) الحجر / ٢٩ ، ص / ٧٢.
(٩) كنز العمال : ج ١٥ / ٤٢٧٥٢.
(١٠) كنز العمال ج ٤ / ١١١٢٧ ، الترمذي رقم ١٦٤١ ، ابن ماجة رقم ١٤٤٩ مسلم رقم ١٨٨٧ أبو داود (٢٥٠٣).
(١١) الاسراء / ٨٥.
(١٢) النساء / ١٧١.