فأمر بقبورهم فحُفرت ، وأُدنيت أكفانهم ، وقاموا الليل كلّه يصلّون.
فلمّا أصبحوا قال أصحاب معاوية : يا هؤلاء ، لقد رأيناكم البارحة قد أطلتم الصلاة وأحسنتم الدعاء ، فأخبرونا ما قولكم في عثمان؟ قالوا : هو أوّل مَنْ جار في الحكم ، وعمل بغير الحق. فقال أصحاب معاوية : أمير المؤمنين كان أعلم بكم.
ثمّ قاموا إليهم فقالوا : تبرؤون من هذا الرجل؟ قالوا : بل نتولاّه ونتبرأ ممّن تبرّأ منه.
فأخذ كلّ رجل منهم رجلاّ ليقتله ، ووقع قبيصة بن ضبيعة في يدي أبي شريف البدّي ، فقال له قبيصة : إنّ الشرّ بين قومي وقومك آمن ، فليقتلني سواك. فقال له : برَّتك رحِم. فأخذ الحضرمي فقتله ، وقتل القضاعي قبيصة بن ضبيعة.
وقال عبد الرحمن بن حسان العنزي ، وكريم بن عفيف الخثعمي : ابعثوا بنا إلى أمير المؤمنين فنحن نقول في هذا الرجل مثل مقالته. فبعثوا إلى معاوية يخبرونه بمقالتهما ، فبعث إليهم : أن ائتوني بهما.
فلمّا دخلا عليه قال الخثعمي : الله الله يا معاوية! فإنّك منقول من هذه الدار الزائلة إلى الدار الآخرة الدائمة ، ثمّ مسؤول عمّا أردت بقتلنا ، وفيم سفكت دماءنا.
فقال معاوية : ما تقول في علي؟
قال : أقول فيه قولك ، أتبرأ من دين علي الذي كان يدين الله به؟ فسكت ، وكره معاوية أن يجيبه ، وقام شمر بن عبد الله من بني قحافة فقال : يا أمير المؤمنين ، هب لي ابن عمّي. قال : هو لك ، غير أنّي حابسه شهراً. فكان يرسل إليه بين كلّ يومين فيكلّمه ، وقال له : إنّي لأنفس بك على العراق أن يكون فيهم مثلك. ثمّ إنّ شمراً عاوده فيه الكلام ، فقال : نمرُّك على هبة ابن عمّك. فدعاه فخلّى سبيله على ألاّ يدخل إلى الكوفة ما كان له سلطان. فقال : تخيَّر أي بلاد العرب أحبّ إليك أن أسيّرك إليها؟ فاختار الموصل ، فكان يقول : لو قد مات معاوية قدمت المصر. فمات قبل معاوية بشهر.