وكان هذا الأمر في مدينة كالشام أمراً سهلاً لم يكلّف معاوية كثير جهد ، ولم يحبس أو يقتل من أجله أحداً ، وبخلاف ذلك كان الأمر في الكوفة ، وهي مركز شيعة علي عليهالسلام ، حيث لم يستطع زياد أن ينجح في بناء جيش للدولة الاُمويّة إلاّ بعد بذل ما ذكرناه من خطط ، وبعد ما قام به من قتل مثل حجر وعمرو بن الحمق الخزاعي ، ونفي مثل صعصة بن صوحان ، وما قام به من قتلٍ على التّهم والظنّ والشبهة تحت كلّ كوكب ، وتحت كلّ حجر ومدر ، وقطع الأيدي والأرجل منهم ، وصلبهم على جذوع النخل ، وسمل أعينهم ، وطردهم وشردهم.
وفي ضوء هذه التربية لم يكن مستغرباً ما صدر من جيش الشام بقيادة مسلم بن عقبة إزاء أهل المدينة بعد واقعة الحرّة ، وكذلك ما صدر من جيش الدولة الاُمويّة في الكوفة إزاء الحسين صلىاللهعليهوآله وأصحابه ؛ وذلك لأنّ التربية واحدة والقيادة واحدة.
روى أحمد بن أعثم في فتوحه : أنّ مسلم بن عقبة (١) قائد الجيش الاُموي الذي بعثه يزيد إلى مدينة الرسول صلىاللهعليهوآله ، وأباحها ثلاثة أيام للجند بعد واقعة الحرّة ، قال في وصيته عند موته : اللّهمّ إنّك تعلم أنّي لم أعصِ خليفة قط. اللّهمّ إنّي لم أعمل عملاً أرجو به النجاة
__________________
(١) قال ابن حجر في الإصابة : مسلم بن عقبة المري ، أبو عقبة ، الأمير من قبل يزيد بن معاوية على الجيش الذين غزوا المدينة يوم الحرّة ، ذكره ابن عساكر وقال : أدرك النبي صلىاللهعليهوآله ، وشهد صفين مع معاوية ، وكان على الرجّالة ، وعمدته في إدراكه أنّه استند إلى ما أخرجه محمّد بن سعد في الطبقات عن الواقدي بأسانيده قال : لمّا بلغ يزيد بن معاوية أنّ أهل المدينة أخرجوا عامله من المدينة وخلعوه ، وجّه إليهم عسكراً أمر عليهم مسلم بن عقبة المري ، وهو يومئذ شيخ ابن بضع وتسعين سنة ، فهذا يدلّ على أنّه كان في العهد النبوي كهلاً ، وقد أفحش مسلم القول والفعل بأهل المدينة ، وأسرف في قتل الكبير والصغير حتّى سمّوه مسرفاً ، وأباح المدينة ثلاثة أيّام لذلك ، والعسكر ينهبون ويقتلون ويفجرون ، ثمّ رفع القتل وبايع مَنْ بقي على أنّهم عبيد ليزيد بن معاوية ، وتوجّه بالعسكر إلى مكة ليحارب ابن الزبير لتخلّفه عن البيعة ليزيد ، فعوجل بالموت فمات بالطريق ، وذاك سنة ثلاث وستين ، واستمر الجيش إلى مكّة فحاصروا ابن الزبير ونصبوا المنجنيق على أبي قبيس ، فجاءهم الخبر بموت يزيد بن معاوية وانصرفوا ، والقصّة معروفة في التواريخ.