المجلس الرابع والسّبعون
لمّا جيء بسبايا أهل البيت إلى الكوفة ، جعل أهل الكوفة ينوحون ويبكون. قال بشر بن خزيم الأسدي : ونظرتُ إلى زينب بنت علي عليهماالسلام يومئذ فلمْ أرَ خَفِرة أنطق منها ، كأنّها تُفرع عن لسان أمير المؤمنين (ع) ، وقد أومَأت إلى النّاس أنْ اسكتوا ، فارتدّت الأنفاس وسكنتْ الأجراس ، ثمّ قالت : الحمد لله والصلاة على محمّد وآله الطاهرين.
أمّا بعد ، أتبكون؟! فلا رقأت الدّمعة ولا قطعت الرنّة ، إنّما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثاً ، تتّخذون أيمانكم دَخَلاً بينكم ، ألا وهل فيكم إلاّ الصلف النّظف والصدر الشنف ، وملق الإماء وغمز الأعداء ، أو كمرعى على دمنة أو كفضة على ملحودة ، ألا ساء ما قدّمتْ لكم أنفسُكم أنْ سخطَ الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون. أتبكون وتنحبون؟! إي والله ، فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً ، فلقد ذهبتم بعارها وشنارها ، ولن ترحضوها بغسل بعدها أبداً ، وأنّى ترحضون قتل سليل خاتم النبوّة ومعدن الرسالة وسيّد شباب أهل الجنّة ، وملاذ حيرتكم ومفزع نازلتكم ، ومنار حجتكم ومِدْرَه (١) سنتكم ، ألا ساء ما تزرون وبُعداً لكم وسُحقاً ، فلقد خاب السّعي وتبّت الأيدي وخسرت الصفقة وبؤتم بغضب من الله ، وضُربتْ عليكم الذلّة والمسكنة. ويلكم! أتدرون أيّ كبد لرسول الله (ص) فريتم؟! وأيّ كريمة له أبرزتم؟! وأيّ دم سفكتم؟! وأيّ حُرمة له انتهكتم؟! لقد جئتم بها صلعاء عنقاء سوداء فقماء نأناء خرقاء شوهاء كطلاع الأرض أو ملء السماء ، أفعجبتم أنْ مطرت السّماء دماً؟ فلعذاب الآخرة أخزى وأنتم لا تُنصرون. فلا يستخفّنكم المهل ؛ فإنّه لا يحفزه البدار ولا يخاف فوت الثار وإنّ ربكم لبالمرصاد. قال : فوالله ، لقد رأيت النّاس يومئذ حيارى يبكون وقد وضعوا أيديهم في
______________________
(١) المِدْرَه كـ (منبر) : السيّد الشريف ، والمقدّم في اللسان واليد عند الخصومة ، والقتّال. ـ المولّف ـ