المجلس الخامس والثّلاثون بعد المئة
لمّا كانت حَجّة الوداع وهي آخر حجّة حجّها رسول الله (ص) ـ كان معه سبعون ألفاً ، وقيل : تسعون ألفاً ، وقيل : مئة ألف ، وقيل أكثر. ولعلّ الذين خرجوا معه من المدينة وأطرافها كانوا سبعين ألفاً ، وبلغوا مع الذي انضمّوا إليه في الطّريق تسعين ألفاً ، وبلغوا في عرفات مع أهل مكّة وأطرافها ومَن جاؤوا مع علي (ع) من اليمن مئة ألف أو أزيد. وخطبهم خطبة طويلة وعرّفهم مناسكهم وأحكام دينهم ، وكان قد أرسل عليّاً (ع) إلى اليمن ليُخمّس أموالها ويقبض ما صالح عليه أهل نجران من الحلل وغيرها ، وأنْ يوافيه إلى الحجّ. فأحرم النّبي (ص) وعقد إحرامه بسياق الهدي ، وأحرم علي (ع) كاحرام رسول الله (ص) وساق الهدي ، ولم يكُن يعلم كيف أحرم رسول الله (ص). وكان الذين خرجوا مع النّبي (ص) منهم مَن ساق الهدي ومنهم لم يسق ، فأنزل الله تعالى : (وَأَتِمّوا الْحَجّ وَالْعُمْرَةَ للّهِ) فأمر النّبي (ص) مَن لم يسق الهدي أنْ يحلّ إحرامه ويجعلها عُمرة ، ومَن ساق الهدي أنْ يبقى على إحرامه ، وكان عليّ ممّن ساق الهدي فبقي على إحرامه. أمّا الذين لم يسوقوا الهدي فمنهم مَن أطاع ومنهم مَن خالف ، وقالوا : رسول الله (ص) أغبر أشعث ونحن نلبس الثّياب ونقرب النّساء وندهن! فأنكر عليهم رسول الله (ص) ، فرجع قوم وأصرّ قوم.
ولمّا رجع رسول الله (ص) من حجّة الوداع ووصل إلى محل يُقال له غدير خُم ، أنزل الله تعالى عليه : (يَا أَيّهَا الرّسُولُ بَلّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبّكَ «يعني في علي» وَإنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ) وكان ذلك يوم الثّامن عشر من ذي الحجّة ، وكان يوماً شديد الحرِّ ، فأمر (ص) بدوحات هُناك ، والدّوحة : الشّجرة العظيمة. فكُنس ما تحتها ووضعت له الأحمال بعضها فوق بعض شبه المنبر ، وأمر مُناديه فنادى الصّلاة جامعة فاجتمع النّاس ، فصعد على تلك الأحمال وأصعد عليّاً (ع) معه ، ثُمّ خطب النّاس ووعظهم ونعى إليهم نفسه ، وقال : «إنّي مُخلّف فيكم ما إنْ تمسكتم به لن تضلّوا