المجلس التّاسع والأربعون بعد المئة
إنّ أمر الحسين (ع) ليس حنكة سياسية وليس غفلة سياسية ، ليس واقعية اورومانتيكية ، إنّه أمر واضح تماماً يرتفع عن مستوى الغفلة أو الخيال. أذكى وأشرف رجل في عصره يقدّم نفسه ليوغل فيه أعداء القيم العليا ما شاء لهم انحدارهم ، كآخر ما يستطيع أنْ يصل إليه الشرّ ، فتكون الصّرخة التّي توقظ ضميراً خربوه بكلّ الوسائل.
وهكذا مضى الحسين (ع) في طريقه إلى العراق ، فتخاذل عنه مَن تخاذل ، واختفى حوله صغار النّاس الذين ساروا في موكبه أول الطّريق حين علموا بخروجه إلى البيعة. لم يمضِ معه إلاّ هؤلاء الذين تمثّلت فيهم الثّورية بمعناها العميق ، ثورية التغيير الجذري للقيم ذاتها.
وتبلورت القوى الثّورية هُنا في هذه الجماعة الصّغيرة التّي تقطع الصّحراء ، مُتحدّية مُصمّمة ، ليس لها من أمل إلاّ في أنْ تعدى النّاس بالثّورة وإنْ تعدى بالذّات تلك الجيوش التّي قد تقطع عليها طريقها إلى العراق.
وهذا الأمل هو الذّريعة التّي يتذرّع بها الحسين (ع) ليُحقق هدفه ، وهو الشّهادة في أكمل صوره.
وفي الطّريق يسأل (ع) مجمعاً بن عبيد العامري ويجيبه : أمّا أشراف النّاس ، فقد اُعظمت رشوتهم ومُلئت فرائرهم ، فهم ألب واحد عليك ؛ وأمّا سائر النّاس فإنّ قلوبهم تهوي إليك ، وسيوفهم غداً مشهورة عليك.
وفي هذه الجملة تلخيص ذكي للقوى القائمة ، فكُبراء النّاس ، هؤلاء الذين يملكون الثّروة ، لم يعد يهمّهم في شيء أنْ يخرج حفيد النّبي ، بل لعلّ خروجه يهمّهم