المجلس السّادس والأربعون بعد المئة
لمّا كان يوم صفّين صلّى علي (ع) صلاة الغَداة ، ثمّ زحف إلى أهل الشام ، فلمّا أبصروه قد خرج ، استقبلوه بزحوفهم فاقتتلوا قتالاً شديداً ، ثمّ إنّ خيل أهل الشام حملت على خيل أهل العراق فاقتطعوا من أصحاب علي ألف رجل أو أكثر ، فأحاطوا بهم وحالوا بينهم وبين أصحابهم فلمْ يروهم ، فنادى علي (ع) يومئذ : «ألا رجل يشري نفسه لله ويبيع دنياه بآخرته؟». فأتاه رجل من جُعف يقال له : عبد العزيز بن الحارث على فرس أدهم ، كأنّه غراب مقنّعاً في الحديد لا يُرى منه إلاّ عيناه ، فقال : يا أمير المؤمنين ، مُرني بأمرك ، فوالله ، ما تأمرني بشيء إلاّ صنعته. فقال علي (ع) :
سمحْتَ بأمرٍ لا يُطاقُ حفيظةً |
|
وصِدقاً وإخوانُ الحفاظِ قليلُ |
جزاك إلهُ النّاسِ خيراً فقدْ وفَتْ |
|
يداكَ بفضلٍ ما هناكَ جزيلِ |
«أبا الحارث ، شدّ الله ركنك ، احمل على أهل الشام حتّى تأتي أصحابك فتقول لهم : أمير المؤمنين يقرأ عليكم السّلام ، ويقول لكم : هلّلوا وكبّروا من ناحيتكم ، ونُهلّل نحن ونكبّر من ناحيتنا ، واحملوا من جانبكم ، ونحمل نحن من جانبنا على أهل الشام». فضرب الجُعفي فرسه حتّى إذا قام على السنابك حمل على أهل الشام المحيطين بأصحاب علي (ع) ، فطاعنهم ساعة وقاتلهم ، فانفرجوا له حتّى أتى أصحابه. فلمّا رأوه استبشروا به وفرحوا ، وقالوا : ما فعل أمير المؤمنين؟ قال : صالح يقرؤكم السّلام ويقول لكم : هلّلوا وكبّروا واحملوا حملة رجل واحد من ذلك الجانب ، ونهلّل نحن من جانبنا ونكبّر ونحمل من خلفكم. فهلّلوا وكبّروا وحملوا ، وهلّل علي (ع) وأصحابه وكبّروا وحملوا على أهل الشام ، فانفرج أهل الشام عنهم ، فخرجوا وما اُصيب منهم رجل واحد ، ولقد قُتل من فرسان أهل الشام يومئذ زهاء سبعمئة رجل. فقال علي (ع) : «مَن أعظم النّاس غناءً؟». فقالوا : أنت يا أمير المؤمنين. قال : «كلاّ ، ولكنّه الجُعفي». إنّ مقام هذا الجُعفي بصفّين لمقامٌ عظيمٌ ، وكفاه شهادة أمير المؤمنين (ع) له بأنّه أعظم النّاس