المجلس الرابع والخمسون بعد المئة
روى غير واحد من المؤرخين ، عن أبي الأغر التميمي قال : إنّي لَواقف يوم صفّين ، إذ مرّ بي العبّاس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب وهو شاكٍ في السّلاح ؛ على رأسه مغفر ، وبيده صفيحة يمانية يقلّبها ، وهو على فرس له أدهم ، وكأنّ عيناه عيني أفعى. فبينا هو يروّض فرسه ويلين من عريكته ، إذ هتف به هاتف من أهل الشام يُقال له غرار : هلمّ يا عبّاس إلى البزاز. قال : فالنّزول إذاً ؛ فإنّه أبأس من القفول. فنزل الشامي وهو يقول :
إنْ ترْكَبُوا فركوبُ الخيلِ عادتُنَا |
|
أو تَنْزلُوا فإنّا معْشرٌ نُزُلُ |
وثنى العبّاس رجله ، ثمّ عصب فضلات درعه في حجزته ودفع فرسه إلى غلام له أسود ، ودلف كلّ واحد منهما إلى صاحبه. قال أبو الأغر : فذكرت قول أبي ذؤيب :
فتَنازلا وتواقَفتْ خيلاهُمَا |
|
وكلاهُمَا بطلُ اللّقاءِ مُجدِّع |
ثمّ تكافحا بسيفهما مليّاً ، لا يصل واحد منهما إلى صاحبه ؛ لكمال لامته ، إلى أنْ لحظ العبّاس وهناً في درع الشامي ، فأهوى إليه بيده فهتكه إلى صدره ، ثمّ عاد لمجاولته وقد أصحر له مفتق الدرع ، فضربه العبّاس ضربة انتظم بها جوانح صدره ، وخرّ الشامي صريعاً لخلده ، وسما العبّاس في النّاس ، وكبّر النّاس تكبيرة ارتجّت لها الأرض. قال أبو الأغر : فسمعت قائلاً يقول من ورائي : (يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ) فالتفت فإذا هو أمير المؤمنين (ع) ، فقال (ع) : «يا أبا الأغر ، مَن المبارز لعدوّنا؟». قلت : العبّاس بن ربيعة. قال (ع) : «يا عبّاس». قال : لبيك. قال (ع) : «ألمْ أنهك ، وحسناً وحسيناً