المجلس الثاني والستّون بعد المئة
ذكر غير واحد من المؤرّخين : إنّ عليّاً (ع) لمّا عاد من صفّين إلى الكوفة بعد أمر الحكمين ، قام ينتظر انقضاء المدّة التي كانت بينه وبين معاوية ليرجع إلى حربه ، إذ انعزلت طائفة من أصحابه في أربعة آلاف ، وهم من العبّاد والنسّاك ، فخرجوا من الكوفة وأنكروا أمر التحكيم ، وقالوا : لا حكمَ إلاّ لله. فقال علي (ع) : «كلمة حقٍّ يُراد بها باطل». وانحاز إليهم نحو من ثمانية آلاف ، فصاروا في اثني عشر ألفاً ، ونزلوا مكاناً يُسمى حروراء ؛ فسُمّوا : الحروريّة. واحتجّ عليهم أمير المؤمنين (ع) ، فقال : «ألم اَقُلْ لكم في يوم رفع المصاحف : إنّ أهل الشام يخدعونكم بها ؛ فإنّ الحرب قد عضّتهم ، فذروني اُناجزهم فأبيتم؟ ألم اُردْ أنْ أبعث ابن عمّي عبد الله بن عباس ليكون حكماً ؛ فإنّه رجل لا يُخدع ، فأبيتم وجئتموني بأبي موسى وقلتم رضينا به؟ ثمّ شرطتُ على الحكمين أنْ يحكما بما أنزل الله في القرآن ، من فاتحته إلى خاتمته ، وأنّهما إنْ لمْ يفعلا فلا طاعة لهما عليَّ؟». قالوا : صدقت ، فلمَ لا ترجع إلى حرب القوم؟ قال (ع) : «حتّى تنقضي المدّة التي بيننا وبينهم». فرجع منهم طائفة. ثمّ اجتمعوا بالنهروان ، ولقيهم عبد الله بن خباب صاحب رسول الله (ص) ، وفي عنقه مصحف ، ومعه امرأته ، فقالوا : ما تقول في عليٍّ قبل التحكيم وبعده؟ قال : إنّه أعلم بالله منكم ، وأشدّ توقّياً على دينه ، وأنفذ بصيرة. قالوا : إنّك تتبع الهوى ، وتوالي الرجال على أسمائها لا على أفعالها ، والله ، لنقتلنّك قتلةً ما قتلناها أحداً. فأخذوه وكتّفوه ، ثمّ أقبلوا به وبامرأته ، وهي حبلى متم ، فنزلوا تحت نخل ، فسقطت منه رطبة ، فوضعها أحدهم في فيه ، فقال له الآخر : أخذتها بغير ثمن! فألقاها. ومرّ بهم خنزير لأهل الذمّة ، فضربه أحدهم بسيفه ، فقالوا : هذا فساد في الأرض ، فارضِ صاحب الخنزير. فلمّا رأى ذلك عبد الله بن خباب ، قال : إنّي مسلم ، ما أحدثت في الإسلام حدثاً ، ولقد أمّنتموني قلتم لا روع عليك. فلم يلتفتوا إلى كلامه ، وقالوا له : هذا الذي في عنقك يأمرنا بقتلك. ثمّ قرّبوه إلى شاطئ النّهر ، فأضجعوه