المجلس الخامس والستّون بعد المئة
في كتاب المستطرف : إنّ معاوية لمّا ولي الخلافة ، وانتظمت له الاُمور ، وامتلأت منه الصدور ، واُذعن لأمره الجمهور ، وساعده في مراده القَدر المقدور ، استحضر ليلةً خواصّ أصحابه وذاكرهم وقائع صفّين ، ومَن كان يتولّى كبر الكراهية من المعروفين ، فانهمكوا في القول الصحيح والمريض ، وآلَ حديثهم إلى مَن كان يجتهد في إيقاد نار الحرب عليه بزيادة التحريض ، فقالوا : امرأة من أهل الكوفة تُسمّى : الزرقاء بنت عدي. كانت تتعمّد الوقوف بين الصفّين ، وترفع صوتها صارخةً بأصحاب علي (ع) ، تُسمعهم كلاماً كالصوارم ، مستحثّة لهم بقولٍ لو سمعه الجبان لقاتل ، والمُدبر لأقبل ، والمُسالم لحارب ، والفارّ لكرّ ، والمتزلزل لاستقرّ. فقال لهم معاوية : أيّكم يحفظ كلامها؟ فقالوا : كلّنا نحفظه. قال : فما تشيرون عليّ فيها؟ قالوا : نشير بقتلها ؛ فإنّها أهل لذلك. فقال لهم : بئس ما أشرتم! وقبحاً لِما قلتم! أيحسن أن يشتهر عنّي ، أنّني بعد ما ضفرت وقدرت ، قتلت امرأة قد وفت لصاحبها؟ إنّي إذاً للئيم. ثمّ دعا بكاتبه ، فكتب كتاباً إلى واليه بالكوفة : أنْ أنفذ إليّ الزّرقاء بنت عدي مع نفر من عشيرتها ، وفرسان من قومها ، ومهّد لها وطاءً ليّناً ، ومركباً ذلولاً. فلمّا ورد عليه الكتاب ، ركب إليها وقرأه عليها ، فقالت : ما أنا بزائغة عن الطاعة. فحملها في هودج ، وجعل غشاءه خزّاً مُبطّناً ، ثمّ أحسن صحبتها. فلمّا قدمت على معاوية ، قال لها : مرحباً وأهلاً ، قدمتِ خيرَ مقدمٍ قدمهُ وافد ، كيف حالك يا خالة؟ وكيف رأيت مسيرك؟ قالت : خيرُ مسير. فقال : هل تعلمين لِمَ بعثتُ إليك؟ قالت : لا يعلم الغيب إلاّ الله سبحانه وتعالى. قال : ألستَ راكبة الجمل الأحمر يوم صفّين ، وأنت بين الصفوف توقدين نار الحرب ، وتحرّضين على القتال؟ قالت : نعم. قال : فما حملك على ذلك؟ قالت : إنّه قد مات الرأس ، وبُتر الذنب ، والدّهر ذو غِيَر ، ومَن تفكّر أبصر ، والأمر يحدث بعده الأمر. فقال : صدقتِ ، فهل تحفظين ما قلتِ؟ قالت : لا والله. قال : لله أبوك! فلقد سمعتك تقولين : أيها