المجلس الثاني والتسعون بعد المئة
قال عُروة بن الزّبير : كنّا جلوساً في مجلس في مسجد رسول الله (ص) ، فتذاكرنا أحوال أهل بدر ، وبيعة الرضوان ، فقال أبو الدّرداء : يا قوم ، ألاَ اُخبركم بأقلِّ القوم مالاً ، وأكثرهم ورعاً ، وأشدهم اجتهاداً في العبادة؟ قالوا : مَن هو؟ قال : علي بن أبي طالب. قال : فوالله ، إنْ كان في جماعة أهل المجلس إلاّ معرض عنه بوجهه ، ثمّ انتُدب له رجل من الأنصار ، فقال له : يا عُويمر ، لقد تكلّمت بكلمة ما وافقك عليها أحد منذ أتيت بها. فقال أبو الدرداء : يا قوم ، إنّي قائل ما رأيته ، وليقل كلُّ قوم ما رأوا. شهدت علي بن أبي طالب (ع) بسويحات بني النّجار ، وقد اعتزل عن مواليه ، واختفى ممّن يليه ، واستتر ببُعيلات النّخل ، فافتقدته وبعُد عليَّ مكانه ، فقلت : لحق بمنزله. فإذا أنا بصوت حزين ونغمة شجي ، وهو يقول : «إلهي ، كمْ من موبقةٍ حملتُها فقابلتَها بنعمتك ، وكم من جريرة تكرّمتَ عن كشفها بكرمك. إلهي ، إنْ طال في عصيانك عُمري ، وعظم في الصُّحف ذنبي ، فما أنا مؤمّلٌ غير غفرانك ، ولا أنا براجٍ غير رضوانك». فشغلني الصوت ، واقتفيت الأثر ، فإذا هو علي بن أبي طالب (ع) بعينه ، فاستترت له لأسمع كلامه ، وأخملت الحركة ، فركع ركعات في جوف الليل الغابر ، ثمّ فزع إلى الدعاء والتّضرع والبكاء ، والبثّ والشكوى ، فكان ممّا به ناجى أنْ قال : «إلهي ، اُفكّر في عفوك فتهون عليَّ خطيئتي ، ثمّ أذكر العظيم من أخذك فتعظم عليّ بليتي». ثمّ قال : «آهٍ إنْ أنا قرأت في الصحف سيئةً ، أنا ناسيها وأنت مُحصيها! فتقول : خذوه. فيا له من مأخوذٍ لا تُنجيه عشيرتُه ، ولا تنفعه قبيلتُه ، يرحمه الملأ إذا أذن فيه بالنّداء». ثمّ قال : «آهٍ من نار تنضج الأكباد والكِلى! آهٍ من نار نزّاعة للشوى! آهٍ من غمرةٍ من مُلتهبات لظى!». ثمّ انغمر في البكاء ، فلمْ أسمع له حسّاً ولا حركة ، فقلتُ : غلب عليه النّوم لطول السهر ، اُوقظه لصلاة الفجر. قال أبو الدّرداء : فأتيته ، فإذا هو كالخشبة المُلقاة ، فحرّكته فلمْ يتحرّك ، وزويته فلم ينزوِ. قلت :