المجلس التاسع بعد المئتين
من خطبة لأمير المؤمنين (ع) : «سبحانك خالقاً ومعبوداً! بُحسن بلائك عند خلقك خلقت داراً ، وجعلت فيها مأدَبةً ؛ مشرباً ومطعماً ، وأزواجاً وخدماً ، وقصوراً وأنهاراً ، وزروعاً وثماراً. ثمّ أرسلت داعياً يدعو إليها ، فلا الداعي أجابوا ، ولا فيما رغَّبت فيه رَغبوا ، ولا إلى ما شوّقت إليه اشتاقوا. أقبلوا على جيفة قد افتضحوا بأكلها ، واصطلحوا على حُبِّها ، ومَن عشق شيئاً أعشى بصره وأمرض قلبه ؛ فهو ينظر بعينٍ غير صحيحة ، ويسمع باُذنٍ غير سميعة ؛ قد خرفت الشهوات عقله ، وأماتت الدُّنيا قلبه ، وولهت عليها نفسه ، فهو عبد لها ولا في يده شيء منها ، حيثما زالتْ زال إليها ، وحيثما أقبلت أقبل عليها ، لا يزدجر من الله بزاجر ولا يتَّعظ منه بواعظ ، وهو يرى المأخوذين على الغِرّة حيث لا إقالة ولا رجعة ؛ كيف نزل بهم ما كانوا يجهلون ، وجاءهم من فراق الدُّنيا ما كانوا يأمنون ، وقدموا من الآخرة على ما كانوا يُوعدون. فغير موصوف ما نزل بهم ، اجتمعت عليهم سكرة الموت وحسرة الفوت ، ففترت لها أطرافهم ، وتغيّرت لها ألوانهم ، ثمّ ازداد الموت فيهم ولوجاً ، فحيل بين أحدهم وبين منطقه ، وإنّه لبينَ أهله ينظر ببصره ويسمع باُذنه ، على صحة من عقله وبقاء من لُبّه ، يُفكر فيمَ أفنى عمره وفيمَ أذهب دهره ، ويتذكّر أموالاً جمعها أغمض في مطالبها ، وأخذها من مصرِّحاتها ومشتبهاتها ، قد لزمته تبعاتُ جمعها ، وأشرف على فراقها ، تبقى لمَن وراءه ينعمون فيها ويتمتّعون بها ؛ فيكون المهنأ لغيره والعبء على ظهره ، والمرء قد غلقت رهونه بها ، فهو يعضّ يده ندامةً على ما أصحر له عند الموت من أمره ، ويزهد فيما كان يرغب فيه أيام عمره ، ويتمنى أنّ الذي كان يغبطه بها ويحسده عليها قد حازها دونه ، فلمْ يزل الموت يبالغ في جسده حتّى خالط لسانه وسمعه ، فصار بين أهله لا ينطق بلسانه ولا يسمع بسمعه ، يُردد طرفه بالنّظر في وجوههم ، يرى حركات ألسنتهم ولا يسمع رجع كلامهم ، ثمّ ازداد الموت التياطاً به ، فقُبض بصره كما قُبض سمعه ، وخرجت الروح من جسده