المجلس العاشر بعد المئتين
من كلام لأمير المؤمنين (ع) في صفة الأموات : «سلكوا في بُطون البرزخ سبيلاً سُلِّطت الأرض عليهم فيه ، فأكلت من لحومِهم وشربتْ من دمائهم ، فأصبحوا في فجَوات قبورِهم جماداً لا يَنْمون ، وضِماراً لا يُوجدُون ؛ لا يُفزعُهم ورودُ الأهوال ولا يحزنهم تنكُّر الأحوال ، ولا يحفلون بالرّواجف ولا يأذنون للقواصف. غُيّباً لا يُنتَظَرون وشهوداً لا يحضرُون ، وإنّما كانوا جميعا فتشتَّتوا واُلاَّفاً فافتَرقوا. وما عن طول عهدهم ، ولا بُعد محلِّهم عَميتْ أخبارُهم وصَمَّت ديارُهم ، ولكنّهم سُقوا كأساً بدّلتهم بالنُّطق خَرَساً ، وبالسّمع صَمماً ، وبالحركات سُكوناً. جيرانٌ لا يتأنَّسون وأحبَّاء لا يتزاورون ، بَلِيت بينهم عُرى التّعارف وانقطعت منهم أسباب الإخاء ؛ فكُلّهم وحيدٌ وهم جميع ، وبجانب الهجرِ وهم أخلاّء. لا يتعارفون لليلٍ صباحاً ولا لنهار مساء ، أيُّ الجديدين (١) ظعنوا فيه كان عليهم سرمداً ، شاهدوا من أخطار دارهم أفظعَ ممّا خافوا ، ورأوا من آياتها أعظمَ ممّا قدَّروا. ولئن عميت آثارُهم وانقطعت أخبارُهم ، لقد رجعت فيهم أبصارُ العِبر ، وسمعت عنهم آذانُ العقول ، وتكلّموا من غير جهات النُّطق ، فقالوا : كَلَحت الوجوه النّواضر ، وخوت الأجسام النّواعم ، ولبسنا أهدام البِلى ، وتكاءَدَنا ضيق المضجع ، وتوارَثْنا الوحشة ، فانمحت محاسنُ أجسادنا ، وتنكّرت معارف صورنا ، وطالت في مساكن الوحشة إقامتُنا ، ولمْ نجدْ من كربٍ فرجاً ، ولا من ضيقٍ مُتّسعاً. فلو مثّلتهم بعقلك ، أو كُشف عنهم محجوب الغطاء لك ، وقد ارتسختْ أسماعهم بالهوامِّ فاستكَّتْ ، واكتحلت أبصارُهم بالتّراب فخَسَفَتْ ، وتقطَّعتْ الألسنة في أفواههم بعد ذَلاقتها ، وهمدتْ القلوب في صدورهم بعد يقظتها ، وعاث في كلِّ جارحة منهم جديدُ بلىً سَمَّجَها ، وسهَّل طُرقَ الآفةِ إليها ، لرأيت أشجان قلوبٍ واقذاءَ عيون. وكم أكلتْ
_______________________
(١) الليل والنهار.