لا ينزف ، وهو أولى بهذا الأمر ؛ لسابقته وسنّه وقِدمه وقرابته ، يعطف على الصغير ويحنو على الكبير ، فأكرم به راعي رعيّة وإمام قوم وجبت لله به الحجّة وبلغت به الموعظة. فلا تعشوا عن نور الحقّ ولا تسكّعوا (١) في وهد الباطل ، فقد كان صخر بن قيس ـ وهو الأحنف ـ انخذل بكم يوم الجمل ، فاغسلوها بخروجكم إلى ابن رسول الله (ص) ونصرته. والله ، لا يقصّر أحد عن نصرته إلاّ أورثه الله الذلّ في ولده والقلّة في عشيرته ، وها أنا ذا قد لبست للحرب لامتها ، وأدرعت لها بدرعها. مَن لَمْ يُقتَل يمت ، ومَن يهرب لَمْ يفت ، فأحسنوا رحمكم الله ردّ الجواب. فتكلّمت بنو حنظلة فقالوا : أبا خالد ، نحن نُبل كنانتك وفرسان عشيرتك ، إنْ رميت بنا أصبت ، وإنْ غزوت بنا فتحت ، لا تخوض والله غمرة إلاّ خضناها ، ولا تلقى والله شدّة إلاّ لقيناها ؛ ننصرك بأسيافنا ونقيك بأبداننا ، إذا شئت فقم. وتكلّمت بنو سعد بن زيد فقالوا : أبا خالد ، إنّ أبغض الأشياء إلينا خلافك والخروج من رأيك ، وقد كان صخر بن قيس أمرنا بترك القتال فحمدنا أمرنا وبقي عزّنا فينا ، فأمهلنا نراجع المشورة ويأتيك رأينا. وتكلّمت بنو عامر بن تميم فقالوا : يا أبا خالد ، نحن بنو أبيك وحلفاؤك ، لا نرضى إنْ غضبت ولا نقطن إنْ ظعنت والأمر إليك ، فادعنا نجبك ومُرنا نطعك والأمر لك إذا شئت. فالتفت إلى بني سعد وقال : والله يا بني سعد ، لئن فعلتموها لا رفع الله السّيف عنكم أبداً ولا زال سيفكم فيكم. ثم كتب إلى الحسين (ع) مع الحجّاج بن بدر السعدي ـ وكان متهيّئاً للمسير إلى الحسين (ع) بعد ما سار إليه جماعة من العبديين من أهل البصرة ـ : بسم الله الرحمن الرحيم أمّا بعد ، فقد وصل إليّ كتابك ، وفهمتُ ما ندبتني له ودعوتني إليه من الأخذ بحظّي من طاعتك والفوز بنصيبي من نصرتك ، وإنّ الله لم يخلُ الأرض من عامل عليها بخير أو دليل على سبيل نجاة ، وأنتم حجّة الله على خلقه ووديعته في أرضه ، تفرّعتم من زيتونة أحمديّة هو أصلها وأنتم فرعها. فاقدم سعدت بأسعد طائر ، فقد ذلّلتُ لك أعناق بني تميم وتركتهم أشدّ تتابعاً في طاعتك من الإبل الظماء لورود الماء يوم خمسها ، وقد ذلّلتُ لك رقاب بني سعد وغسلتُ درن صدورها بماء سحابة مزن حين استهلّ برقها فلمع. فلمّا قرأ الحسين (ع) الكتاب ، قال : «ما لك ، آمنك الله يوم الخوف وأعزّك وأرواك يوم العطش الأكبر». فلمّا تجهّز المشار إليه للخروج إلى الحسين (ع) ، بلغه قتله قبل أنْ يسير ، فجزع من انقطاعه عنه ، وبقي الحجّاج معه حتّى قُتل بين يديه.
أسفاً وهلْ يُجدي الكَئيبَ تأسّفٌ |
|
إنْ لمْ أكُنْ يومَ الطّفوفِ لكَ الفِدا |
______________________
(١) التسكّع : التمادي في الباطل.