المجلس الثامن والعشرون
لمّا كتب أهل الكوفة إلى الحسين (ع) بالقدوم عليهم وألحّوا عليه ، أجابهم بـ : «إنّي باعث إليكم أخي وابن عمّي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل». وإنّه إنْ كتب إليه باجتماع رأيهم على مثل ما كتبوا به ، قدم إليهم عن قريب. ودعا بمسلم فأرسله مع قيس بن مسهّر الصيداوي ورجلين آخرين ، وأمره بالتقوى وكتمان أمره واللطف ، فإنْ رأى النّاس مجتمعين مستقيمين ، عجّل إليه بذلك. فأتى مسلم المدينة فصلّى في مسجد النبي (ص) ، وودّع مَن أحبّ من أهله ، واستأجر دليلين فسارا به على غير الطريق ، فضلّ الدليلان وأصابهما عطش شديد فماتا بعد أنْ أشارا له إلى الطريق. وانتهى مسلم إلى الماء في موضع يُعرف بالمضيق ، وكتب إلى الحسين (ع) : أمّا بعد ، فإنّي أقبلت من المدينة مع دليلين لي فجازا عن الطريق فضلاّ واشتدّ عليهما العطش فلم يلبثا أنْ ماتا ، وأقبلنا حتّى انتهينا إلى الماء فلم ننجُ إلاّ بحشاشة أنفسنا ، وذلك الماء بمكان يُدعى المضيق من بطن الخبت ، وقد تطيّرت من توجّهي هذا ، فإنْ رأيت أعفيتني وبعثت غيري ، والسّلام. فأجابه الحسين (ع) : «أمّا بعد ، فقد خشيت أنْ لا يكون حملك على الكتابة إليّ في الاستعفاء إلاّ الجبن ، فامض لوجهك الذي وجّهتك فيه ، والسّلام». فقال مسلم : أمّا هذا (يعني الجُبن) فلست أتخوّفه على نفسي. ثم أقبل حتّى دخل الكوفة فنزل في دار المختار ، وأقبل النّاس يختلفون إليه ، فكلمّا اجتمع منهم جماعة ، قرأ عليهم كتاب الحسين (ع) وهم يبكون حتّى بايعه منهم ثمانية عشر ألفاً ، فكتب إلى الحسين (ع) يخبره بذلك ويأمره بالقدوم. وبلغ ذلك النّعمان بن بشير الأنصاري ـ وكان والياً على الكوفة ـ فصعد المنبر وخطب النّاس وحذّرهم ، فقال له عبد الله بن مسلم الحضرمي ـ حليف بني اُميّة ـ : إنّه لا يصلح ما ترى أيّها الأمير إلاّ الغشم ، وإنّ هذا الذي أنت عليه رأي المستضعفين. فقال : أنْ أكون من المستضعفين في طاعة الله أحبّ إليّ من أنْ أكون من الأعزّين في معصية الله. فكتب عبد الله بن مسلم هذا وعمارة بن عقبة وعمر بن سعد بن أبي وقّاص إلى يزيد يخبرونه