المجلس التاسع والثلاثون
لمّا نزل الحسين (ع) ببطن العقبة ، لقيه شيخ من بني عكرمة يقال له عمرو بن يؤذان ، فسأله : أين تريد؟ فقال الحسين (ع) : «الكوفة». فقال الشيخ : أنشدك الله لمّا انصرفت ، فوالله ما تقدم إلاّ على الأسنّة وحدّ السّيوف ، وإنّ هؤلاء الذين بعثوا إليك لو كانوا كفوك مؤونة القتال ، ووطّؤوا لك الأشياء فقدمت عليهم كان ذلك رأياً ، فأمّا على هذه الحال التي تذكر ، فإنّي لا أرى لك أنْ تفعل. فقال له الحسين (ع) : «يا عبد الله ، ليس يخفى عليّ الرأي ، ولكنّ الله تعالى لا يُغلب على أمره». ثمّ قال (ع) : «والله ، لا يدعوني حتّى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي ، فاذا فعلوا سلّط الله عليهم مَن يذلّهم حتّى يكونوا أذلّ فِرق الاُمم». ثم سار (ع) من بطن العقبة حتّى نزل (شراف) ، فلمّا كان في السّحر أمر فتيانه فاستقوا من الماء فأكثروا ، ثمّ سار منها حتّى انتصف النّهار فبينا هو يسير إذ كبّر رجل من أصحابه ، فقال الحسين (ع) : «الله أكبر ، لِم كبّرت؟». قال : رأيت النّخل. فقال له جماعة من أصحابه : والله ، إنّ هذا المكان ما رأينا به نخلة قط! فقال لهم الحسين (ع) : «فما ترونه؟». قالوا : نراه والله أسنّة الرماح وآذان الخيل. قال (ع) : «وأنا والله أرى ذلك». ثمّ قال (ع) : «ما لنا ملجأ نلجأ إليه فنجعله في ظهورنا ، ونستقبل القوم بوجه واحد؟». فقالوا له : بلى ، هذا هو ذو حُسُم (١) إلى جنبك فمل إليه عن يسارك ، فإنْ سبقتَ إليه فهو كما تريد. فأخذ إليه ذات اليسار ومِلنا معه ، فما كان بأسرع من أنْ طلعت علينا هوادي (٢) الخيل فتبينّاها وعدلنا ، فلمّا رأونا عدلنا عن الطريق ، عدلوا إلينا كأنّ أسنّتهم اليعاسيب (٣) ، وكأنّ راياتهم
______________________
(١) بحاء وسين مهملتين مضمومتين وميم : جبل كان النّعمان يصطاد فيه ، وفيه يقول مهلهل :
ألَيْلتَنَا بذِي حُسُمٍ أنيري |
|
إذا أنتِ انقضيتِ فلا تَحُوري |
(٢) جمع هادي : وهو العنق.
(٣) جمع يعسوب : وهو أمير النّحل وذكرها ، وضرب من الحجلان ، وطائر صغير. ـ المؤلّف ـ