المجلس الثاني والأربعون
لمّا كان الحُرّ يساير الحسين (ع) ، لم يزل يسايره حتّى انتهوا إلى نينوى ، فجاء كتاب عبيد الله بن زياد إلى الحُرّ : أمّا بعد ، فجعجع بالحسين (أي : ضيّق عليه) ولا تنزله إلاّ بالعراء في غير حصن وعلى غير ماء. فمنعهم الحُرّ وأصحابه من المسير ، وأخذهم بالنّزول في ذلك المكان على غير ماء ولا قرية. فقال الحسين (ع) : «ألمْ تأمرْنا بالعدول عن الطريق؟». قال : بلى ، ولكن كتاب الأمير عبيد الله قد وصل يأمرني فيه بالتضييق عليك ، وقد جعل عليّ عيناً يطالبني بذلك. فقال له الحسين (ع) : «دعنا ـ ويحك ـ ننزل في هذه القرية أو هذه» : يعني نينوى والغاضرية. فقال : لا أستطيع ، هذا رجل قد بعث عليّ عيناً. فقال زهير بن القَين للحسين (ع) : إنّي والله ، لا أرى أنْ يكون بعد الذي ترون إلاّ أشدّ ممّا ترون يابن رسول الله. إنّ قتال هؤلاء السّاعة أهون علينا من قتال مَن يأتينا بعدهم ، فلعمري ليأتينا من بعدهم ما لا قِبَل لنا به. فقال الحسين (ع) : «ما كنتُ لأبدأهم بالقتال». فقال له زهير : فسرْ بنا يابن رسول الله حتّى ننزل كربلاء ، فإنّها على شاطئ الفرات فنكون هناك ؛ فإنْ قاتلونا قاتلناهم واستعنّا الله عليهم. قال : فدمعت عينا الحسين (ع) ، ثمّ قال : «اللهمَّ ، إنّي أعوذ بك من الكرب والبلاء». ثم قام الحسين (ع) خطيباً في أصحابه ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : «إنّه قد نزل بنا من الأمر ما قد ترون ، وأنّ الدّنيا تغيّرت وتنكّرت وأدبر معروفها ، واستمرّت حذّاءَ (١) ولم يبقَ منها إلاّ صُبابة كصبابة الإناء ، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل. ألا ترون إلى الحقّ لا يُعمل به ، وإلى الباطل لا يُتناهى عنه؟! ليرغب المؤمن في لقاء ربّه مُحقّاً ؛ فإنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة والحياة مع الظالمين إلاّ برما فقام»
______________________
(١) الحذّاء ، بالحاء المهملة والذال المعجمة المشدّدة : النّاقة الخفيفة الذنب ، أو السّريعة الخفيفة ، أو السّريعة الماضية التي لا يتعلّق بها شيء ، أو الرحم التي لمْ تُوصل. فمعنى استمرّت حذّاء : أي لم يبقَ منها إلاّ مثل ذنب الأحذ ، أو حذّاء : سريعة الإدبار ، أو سريعة خفيفة ، أو قد انقطع آخرها كالرحم المقطوعة. ـ المؤلّف ـ