أحبّ إليّ من الدنيا كلّها (١). أفترى أنّ ابتهاجه بهذه الآية كان لوعده بفتح مكّة ، أو بما اتّفق له في تلك السنة من فتح خيبر وفدك ، أو لصلح الحديبيّة ، أو لفتح الروم ـ على اختلاف التفاسير الّتي ذكرت في كتبها ـ؟ كيف ولا تعدل الدنيا وزخرفها وإقبالها ودولتها وسلطنتها وفتح بلادها من المشرق والمغرب عنده صلّى الله عليه وآله مقدار جناح البعوضة وما دونها؟ اللهمّ إلّا أن يكون في ذلك إعلاء لكلمة الإسلام ؛ الكاشفة عن شأنه ورتبته المخصوصة به من بين الأنام.
فيحتمل أن يراد بـ «الفتح المبين» ما نطقت به ألسنة القشريّين من المفسّرين ، لكونه كاشفا عن فضله على اليقين للعوامّ دون الخصّيصين من أرباب الشهود ، الواقفين على سرّ الوجود ، فإنّهم ما عرفوه بشؤون الناسوت ؛ بل شاهدوه بعين الملكوت ، أنّه الفارع (٢) من حضيض الإمكان إلى أوج قرب الحيّ الّذي لا يموت ؛ حتّى دنى فتدلّى ، فكان قاب قوسين أو أدنى (٣).
(لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) التفات من التكلّم إلى الغيبة ، وتعبير على خلاف ما يقتضيه ظاهر سوق الكلام ، وانتقال من أسلوب إلى أسلوب آخر غير ما يترقّبه المخاطب ، تطرئة لنشاطه ، وإيقاظا في إصغائه ، وهذا لاشتماله على النكتة الّتي هي من خواصّ التركيب من فنون المعاني ، ولكونه من إيراد المعنى الواحد على طرق مختلفة في الوضوح من فنون البيان ، ولكونه موجبا لتحسين الكلام وتزيينه من علم البديع ؛ كما صرّح به
__________________
(١) مجمع البيان ٩ : ١٤٠.
(٢) «ب» : العارج.
(٣) إشارة إلى الآية ٩ من سورة النجم.