يکون تصور الطرفين مع توجه النفس الى النسبة بينهما کافيا في الحکم والجزم بصدق القضية فکلما وقع للعقل أن يتصور حدود القضية الطرفين على حقيقتها وقع له التصديق بها فورا عندما يکون متوجها لها. وهذا مثل قولنا «الکل أعظم من الجزء» و«النقيضان لا يجتمعان».
وهذه (الاوليات) منها ما هو جلي عند الجميع اذ يکون تصور الحدود حاصلا لهم جميعا کالمثالين المتقدمين ومنها ما هو خفي عند بعض لوقوع الالتباس في تصوّر الحدود ومتي ما زال الالتباس بادر العقل الى الاعتقاد الجازم.
ونحن ذاکرون هنا مثالا دقيقا على ذلک مستعينين بنباهة الطالب الذکي على ايضاحه. وهو قولهم «الوجود موجود» فان بعض الباحثين اشتبه عليه معني موجود اذ يتصور أن معناه (انه شيء له الوجود) فقال : لا يصح الحکم على الوجود بأنه موجود والا لکان للوجود وجود آخر وهذا الآخر أيضا موجود فيلزم ان يکون له وجود ثالث ... وهکذا فيتسلسل الى غير النهاية. لأجله أنکر هذا القائل اصالة الوجود وذهب الى الصالة الماهية
ولکن نقول : ان هذا الزعم ناشيء عن الغفلة عن معني (موجود) فانه قد يتضح للفظ موجود معني آخر اوسع من الأول. وهو المعني المشترک الذي يشمله ويشمل معني ثانيا وهو مالا يکون الوجود زائدا عليه بل کونه موجودا هو بعينه کونه وجودا لا أن له وجود آخر وذلک بان يکون معني موجود منتزعا من صميم ذات الوجود لا باضافة وجود آخر زائد عليه. فانه يقال مثلا ـ : الانسان موجود وهو صحيح ولکن باضافة الوجود الى الانسان ويقال أيضا : الوجود موجود. وهو صحيح أيضا ولکن بنفسه لا باضافة وجود ثان اليه وهو أحق بصدق الموجود عليه. کما يقال : الجسم أبيض باضافة البياض اليه. ويقال : البياض أبيض ولکنه بنفسه لا ببياض آخر وصدق الابيض عليه أولي من صدقه على الجسم الذي صار
__________________
١ ـ تقدم في الجزء الاول بيان معنى توجه النفس والحاجة اليه. وهذا البحث عن معنى التوجه وأسبابه وضرورته من مختصات هذا الكتاب التي لم يسبق اليها سابق فيما نعلم بهذا التفصيل.