والحق أن الشاعر البارع کالخطيب البارع يستمد في ابداعه من عقله الباطن اللاشعوري فيتدفق الشعر على لسانه کالالهام من حيث يدري ولا يدري على اختلاف عظيم للشعراء والخطباء في هذه الناحية.
وليس الشعر والخطابة کسائر الصناعات الاخري التي يبدع فيها الصانع عن روية وتأمل دائما. والى هذا أشار صحار العبدي لما سأله معاوية : ما هذه البلاغة فيکم؟ فقال : «شيء يختلج في صدورنا فتقذفه ألسنتنا کما يقذف البحر الدرر» وهذه لفتة بارعة من هذا الاعرابي ادرکها بفطرته وصورها على طبع سجيته.
ومن أجل ما قلناه من استمداد الشاعر من منطقة اللاشعور تجده قد لا يواتيه الشعر وهو في أشد ما يکون من يقظته الفکرية ورغبته الملحة في انشائه. قال الفرزدق : «قد يأتي على الحين وقلع ضرس عندي اهون من قول بيت شعر».
وبالعکس قد يفيض الشعر ويتدفق على لسان الشاعر من غير سابق تهيؤ فکري والشعراء وحدهم يعرفون مدي صحة هذه الحقيقة من أنفسهم.
واحسب انه من أجل هذا زعم العرب أو شعراؤهم خاصة دن لکل شاعر شيطانا أو جنيا يلقي عليه الشعر. والغريب أن بعضهم تخيله شخصا يمثل له وأسماه باسم مخصوص. وکل ذلک لانهم رأوا من انفسهم ان الشعر يواتيهم على الاکثر من وراء منطقة الشعور وعجزوا عن تفسيره بغير الشيطان والجن.
وعلى کل حال فان قوة الشعر اذا کانت موجودة في نفس الفرد لا تخرج کما تقدم من حد القوة الى حد الفعلية اعتباطا من دون سابق تمرين وممارسة للشعر بحفظ وتفهم ومحاولة نظمه مرة بعد أخري. وقد أوصي بعض الشعراء ناشئا ليتعلم الشعر ان يحفظ قسما کبيرا من المختار منه ثم يتناسره مدة طويلة ثم يخرج الى الحدائق الغناء ليستلهمه وکذلک فعل ذلک الناشيء فصار شاعرا کبيرا.
__________________
١ ـ راجع العقد الفريد الجزء ٣ ص ٤٢١.