وتوجّه الحُسين في غلس الليل البهيم إلى قبر أُمّه وديعة النّبي (صلّى الله عليه وآله) وبضعته ، ووقف أمام قبرها الشريف مليّاً وهو يُلقي عليه نظرات الوداع الأخير ، وقد ثمثّلت أمامه عواطفها الفيّاضة وشدّة حنوّها عليه ، وقد ودّ أنْ تنشقّ الأرض لتواريه معها ، وانفجر بالبكاء وودّع القبر وداعاً حاراً ، ثمّ انصرف إلى قبر أخيه الزكي أبي محمّد ، فأخذ يروّي ثرى القبر مِنْ دموع عينيه وقد ألمّت به الآلام والأحزان ، ثمّ رجع إلى منزله وهو غارق بالأسى والشجون (١).
ولمّا عزم الإمام على مغادرة يثرب واللّجوء إلى مكّة اجتمعْنَ السيّدات مِنْ نساء بني عبد المطّلب ، وقد جاشت عواطفهنَّ بالأسى والحزن ، فقد تواترت عليهنَّ الأنباء عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عن مقتل ولده الحُسين ، وجعلْنَ ينحْنَ وتعالت أصواتهنَّ بالبكاء وكان منظراً مفزعاً ، وانبرى إليهنَّ الحُسين وهو رابط الجأش ، فقال لهنَّ : «أُنشدكنَّ الله أنْ تبدينَ هذا الأمر معصيةً لله ولرسوله».
فذابت نفوسهنَّ ، وصحنَ : لمَنْ نستبقي النياحة والبكاء؟ فهو عندنا كيوم مات فيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وعلي وفاطمة والحسن ، جعلنا الله فداك يا حبيب الأبرار.
__________________
(١) الفتوح ٥ / ٢٩.