وسار القائد العظيم سليل هاشم وفخر عدنان متلدّداً في أزقّة الكوفة وشوارعها ، ومضى هائماً على وجهه في جهة كندة (١) يلتمس داراً لينفق فيها بقيّة الليل ، وقد خلت المدينة مِن المارة وعادت كأنّها واحة موحشة ، فقد أسرع كلّ واحد مِنْ جيشه وأعوانه إلى داره وأغلق عليه الأبواب ؛ مخافة أنْ تعرفه مباحث الأمن وعيون ابن زياد بأنّه كان مع ابن عقيل فتلقي عليه القبض.
وأحاطت بمسلم تيّارات مذهلة مِن الهموم وكاد قلبه أنْ ينفجر مِنْ شدّة الألم وعظيم الحزن ، وقد هاله إجماع القوم على نكث بيعته وغدرهم به ، واستبان له أنّه ليس في المصر رجل شريف يقوم بضيافته وحمايته أو يدلّه على الطريق ؛ فقد كان لا يعرف مسالك البلد وطرقها.
وسار وهو حائر الفكر خائر القوى حتّى انتهى إلى سيّدة يُقال لها (طوعة) ، هي سيّدة مَنْ في المصر رجالاً ونساءً بما تملكه مِنْ إنسانية ونبل ، وكانت أولدت للأشعث بن قيس فأعتقها فتزوجها أسيد الحضرمي فولدت له بلالاً (٢) ، وكانت السيّدة واقفة على الباب تنتظر ابنها وترتقب طلوعه للأحداث الرهيبة التي حلّت في المصر ، ولمّا رآها مسلم بادر إليها فسلّم عليها فردّت عليه السّلام بتثاقل ، وقالت له :
ـ ما حاجتك؟
__________________
(١) الأخبار الطوال / ٢٤٠.
(٢) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٧٢ ، وفي الفتوح ٥ / ٨٨ أنّها كانت فيما مضى امرأة قيس الكندي ، فتزوّجها رجل مِنْ بعده مِنْ حضرموت يُقال له أسد بن البطين ، فأولدها ولداً يقال له أسد.