كثير من أجزاء هذا العالم والنسب التي بينها والنظام الجاري فيها. ولعلّ ما هو مجهول منها أكثر ممّا هو معلوم.
وقد تبيّن في الأبحاث السابقة (١) أنّ عالم المادّة بما بين أجزائه من الارتباط والاتّصال واحدٌ سيّالٌ في ذاته متحرّكٌ في جوهره ويشايعه في ذلك الأعراض ، والغاية التي تنتهي إليها هذه الحركة العامّة هي التجرّد على ما تقدّمت الإشارة إليه في مرحلة القوّة والفعل (٢).
وإذ كان هذا العالم حركةً ومتحرّكاً في جوهره ، سيلاناً وسيّالا في وجوده ، وكانت هويّته عين التجدّد والتغيّر لا شيئاً يطرأ عليه التجدّد والتغيّر ، صحّ ارتباطه بالعلّة الثابتة التي تَنَزَّه عن التجدّد والتغيّر.
فالجاعل الثابت الوجود جَعَلَ ما هو في ذاته متجدّدٌ متغيّرٌ ، لا أنّه جَعَل الشيء متجدّداً متغيّراً. وبذلك يرتفع إشكال استناد المتغيّر إلى الثابت وارتباط الحادث بالقديم.
الفصل الثالث والعشرون
في حدوث العالم
قد تحقّق فيما تقدّم من مباحث القدم والحدوث (٣) أنّ كلَّ ماهيّة ممكنة موجودة مسبوقةُ الوجود بعدم ذاتيٍّ ، فهي حادثةٌ حدوثاً ذاتيّاً ، والعدم السابق على وجودها بحدّه منتزَعٌ عن علّتها الموجِدة لها ، فهي مسبوقةُ الوجود بوجودِ علِّتها متأخّرةٌ عنها.
وإذ كان المبدأ الأوّل لكلِّ وجود إمكانيٍّ ـ سواء كان مادّياً أو مجرّداً ، عقليّاً أو غير عقليّ ـ هو الواجب لذاته (تعالى) ، فكلُّ ممكن موجود حادثٌ ذاتاً بالنسبة
__________________
(١) راجع الفصل الثالث من المرحلة الحادية عشرة ، والفصل الثامن من المرحلة التاسعة.
(٢) راجع الفصل الخامس من المرحلة التاسعة.
(٣) راجع الفصل السادس من المرحلة العاشرة.