(الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) وهم أمة محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم. ثم قسمهم ثلاث طبقات ورتبهم على ثلاث درجات فقال الله تعالى : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) قيّد اللفظ وعلّق الظلم بالنفس ؛ فلذلك ساغ أن يكون من أهل الاصطفاء مع ظلمه.
فإن قيل : ما وجه الحكمة في تقديم الظالم وتأخير السابق وإنما يقدم الأفضل؟
فالجواب عنه أن نقول : إنما أخر السابق ليكون أقرب إلى الجنان والثواب ، كما قدم الصوامع والبيع والصلوات في سورة الحج على المساجد التي هي أفضل بقاع الأرض ، فتكون الصوامع أقرب إلى الهدم والخراب وتكون المساجد أقرب إلى ذكر الله تعالى.
ومنهم من قال : إنما جعل ذلك ؛ لأن الملوك إذا أرادوا الجمع بين الأشياء بالذكر قدموا الأدنى على الأفضل. كقوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (١) ، وقال : (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) (٢) ، وقال : (يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ) (٣) وقال : (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) (٤).
وقيل : قدم الظالم لئلا ييأس من رحمته وأخر السابق لئلا يعجب بعمله.
وقال جعفر الصادق عليهالسلام : «بدأ بالظالم إخبارا (٥) أنه لا يتقرب إليه إلّا بصرف رحمته وكرمه ، وأنّ الظلم لا يؤثّر في الاصطفائية ثم ثنى بالمقتصدين ؛ لأنهم بين الخوف والرجاء ، ثم ختم بالسابقين لئلا يأمن أحد مكر الله وكلّهم في الجنة بحرمة كلمة الإخلاص» [٥٤] (٦).
وقال بعضهم : قدم الظالم ؛ لأنه لم يكن له شيء يتكل عليه إلّا رحمة الله فاعتمد على الله واتكل على رحمته واتكل المقتصد على حسن ظنه بربه واتكل السابق على حسناته وطاعته.
وقال محمد بن علي الترمذي : جمعهم في الاصطفاء إزالة للعلل عن العطاء ؛ لأنّ الاصطفاء أوجب الإرث لا الإرث أوجب الاصطفاء ؛ لذلك قيل : صحح النسبة ثم أطمع في الميراث.
وقال أبو بكر الوراق : إنما رتبهم هذا الترتيب على مقامات الناس ؛ لأنّ أحوال العبد ثلاث : معصية ، وغفلة ، ثم توبة وقربة. فإذا عصى دخل في حيّز الظالمين ، وإذا تاب دخل في
__________________
(١) سورة الرعد : ٦.
(٢) سورة الحج : ٦١.
(٣) سورة الشورى : ٤٩.
(٤) سورة الملك : ٢.
(٥) في المصدر : قدم الظالم ليخبر.
(٦) تفسير القرطبي : ١٤ / ٣٤٩.