عشرات الكرام ، ثمّ خلّى سبيله ، فخرج على وجهه ، حتّى بات في مسجد رسول الله صلّى الله عليه بالمدينة تلك الليلة ، ثمّ ذهب فلا يدرى أين ذهب من أرض الله إلى يومه هذا ، فذكر لرسول الله صلّى الله عليه شأنه فقال : ذاك رجل نجّاه الله بوفائه.
وبعض الناس يزعم أنّه أوثق برمّة فيمن أوثق من بني قريظة حين نزلوا على حكم رسول الله صلّى الله عليه ، فأصبحت رمّته ملقاة لا يدرى أين ذهب ، فقال رسول الله صلّى الله عليه تلك المقالة والله أعلم.
فلمّا أصبحوا نزلوا على حكم رسول الله صلّى الله عليه وتواثبت الأوس ، فقالوا : يا رسول الله إنّهم موالينا دون الخزرج ، وقد فعلت في موالي الخزرج بالأمس ما قد علمت ، وقد كان رسول الله صلّى الله عليه قبل بني قريظة حاصر بني قينقاع ، وكانوا حلفاء الخزرج ، فنزلوا على حكمه فسألهم إيّاه عبد الله بن أبي سلول فوهبهم له ، فلمّا كلّمته الأوس قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم»؟ قالوا : بلى.
قال : «فذلك إلى سعد بن معاذ» [١٠] (١). وكان سعد بن معاذ قد جعله رسول الله صلىاللهعليهوسلم في خيمة امرأة من المسلمين ، يقال لها (رفيدة) في مسجده ، وكانت تداوي الجرحى ، وتحبس نفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين. وكان رسول الله صلّى الله عليه قد قال لقومه حين أصابه السهم بالخندق : «اجعلوه في خيمة رفيدة حتى أعوده من قريب» [١١] (٢).
فلمّا حكّمه رسول الله صلىاللهعليهوسلم في بني قريظة ، أتاه قومه فاحتملوه على حمار ، وقد وطئوا له بوسادة من أدم ، وكان رجلا جسيما ، ثمّ أقبلوا معه إلى رسول الله صلّى الله عليه وهم يقولون : يا أبا عمرو أحسن في مواليك ، فإنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم إنّما ولّاك ذاك لتحسن فيهم ، فلمّا أكثروا عليه قال : قد أتى لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم ، فرجع بعض من كان معه إلى دار بني عبد الأشهل فنعي لهم رجال بني قريظة قبل أن يصل إليهم سعد بن معاذ عن كلمته التي سمع منه.
فلمّا انتهى رسول الله صلّى الله عليه قال : قوموا إلى سيّدكم فأنزلوه. فقاموا إليه فقالوا : يا أبا عمرو إنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم قد ولّاك مواليك لتحكم فيهم ، فقال سعد : عليكم بذلك عهد الله وميثاقه أنّ الحكم فيها ما حكمت؟ قالوا : نعم ، قال : وعليّ من هاهنا في الناحية التي فيها رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو معرض عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم إجلالا له ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : نعم.
قال سعد : فإنّي أحكم فيهم ، أن يقتل الرجال ، وتقسم الأموال ، وتسبى النساء والذراري ،
__________________
(١) البداية والنهاية : ٤ / ١٣٩.
(٢) تفسير الطبري : ٢١ / ١٨١.