النار ، فانصرف الرجلان إلى فرعون فأمّا أحدهما فاعتبر وآمن ، وأمّا الآخر فأخبر فرعون بالقصّة على رؤوس الملأ ، فقال له فرعون : وهل كان معك غيرك؟ قال : نعم.
قال : ومن كان معك؟ قال : فلان. فدعى به. فقال : حقّ ما يقول هذا؟ قال : لا ، ما رأيت ممّا قال شيئا. فأعطاه فرعون وأجزل ، وأمّا الآخر فقتله ثمّ صلبه.
قال : وكان فرعون قد تزوّج امرأة من أجمل نساء بني إسرائيل يقال لها آسيا بنت مزاحم ، فرأت ما صنع فرعون بالماشطة فقالت : وكيف يسعني أن أصبر على ما أتى فرعون وأنا مسلمة وهو كافر ، فبينما هي كذلك تؤامر نفسها إذ دخل عليها فرعون فجلس قريبا منها فقالت : يا فرعون أنت شرّ الخلق وأخبثه عمدت إلى الماشطة فقتلتها ، فقال : فلعلّ بك الجنون الذي كان بها.
قالت : ما بي من جنون ، وإن إلهي وإلهها وإلهك وإله السماوات والأرض واحد لا شريك له فمزّق عليها وضربها وأرسل إلى أبويها فدعاهما فقال لهما الأمر ، بأنّ الجنون الذي كان بالماشطة أصابها فقالت : أعوذ بالله من ذلك ، إنّي أشهد أنّ ربّي وربّك وربّ السماوات والأرض واحد لا شريك له ، فقال أبوها : يا آسية ألست خير نساء العماليق وزوجك إله العماليق؟ قالت : أعوذ بالله من ذلك إن كان ما تقول حقّا ، فقولا له : يتوّجني تاجا يكون الشمس أمامه والقمر خلفه والكواكب حوله ، فقال لهم فرعون : أخرجا عنّي فمدّها بين أربعة أوتاد يعذّبها ، وفتح الله سبحانه لها بابا إلى الجنّة ليهوّن عليها ما يصنع بها فرعون فعند ذلك قالت : (رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ) يعني من جماع فرعون (وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) يعني من فرعون وشيعته ، فقبض الله سبحانه روحها وأسكنها الجنّة (١).
وقيل : الأوتاد عبارة عن ثبات مملكته وطول مدّته وشدّة هيبته ، كثبوت الأوتاد في الأرض كقول الأسود :
في ظل ملك ثابت الأوتاد (٢)
(الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ) قال قتادة : يعني لونا من العذاب صبّه عليهم ، وقال السّدي : كلّ يوم لون آخر من العذاب ، وقيل : وجع العذاب ، وقال أهل المعاني : هذا على الاستعارة ؛ لأنّ السوط عندهم غاية العذاب ، فجرى ذلك لكلّ عذاب. قال الشاعر :
__________________
(١) القصة بتفاوت في الأحاديث الطوال للطبراني : ١١٥ ، وتفسير ابن كثير : ٤ / ٤٢٠.
(٢) معاني القرآن للنحاس : ٦ / ٨٥ ، ومعجم البلدان : ١ / ٢٧٢ ومطلعه : ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة.