فكأنه يقول : ان السبب الأعظم والمُمَد الأعلى في أهليته لهذه الأمانة المعروضة على السماوات والأرض والجبال وما فيها من المخلوقات كان « ظلوميته وجهوليته » لانه لو لم يكن مستحقا لحملها ومستعداً لقبولها لكان كغيره من الموجودات لعدم هاتين الصفتين فيه ، وعلى هذا التقدير تكون صفتا « الظلومية والجهولية » مدحاً له « يعني للإنسان » لا مذمة كما ذهب إليه أكثر المفسرين (١) ، ولا شك انه كذلك واللام في « لانه » لام التعليل لا غير ، ليعرف به هذا المعنى والمراد بالإنسان نوعه وبالحمل استعداده للحمل وقابليته له. وهذا هو المعنى المطابق للامانة والعرض والحمل والقبول والإباء اجمالا لا غير ، وإلاّ الأمانة ما كانت شيئاً محسوساً معروضاً على كل واحد من الموجوادات حساً وشهادة ولا كان آباؤهم عنها قولاً وفعلاً ، كما يرسخ في اذهان المحجوبين عنها. اذن بما أنه تعالى مع عظمة شأنه وجلالة قدره لم يضع ويدع الأمانة إلا عند أهلها ، ولم يأذن بها إلا إلىٰ صاحبها فلا ينبغي ان يفعل غيره بخلاف ذلك وإلا يكون مخالفاً لأمره سالكاً غيره طريقه وايضاً لو لم تكن رعاية الأمانة عنده عظيمة ما مدح بنفسه للراغبين أمانته ، وما سلكهم في سلك المصلين الصلاة الحقيقية ، وما جعلهم من الوارثين ( قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ) إلى قوله تعالى ( أُولَٰئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) فحيث مدحهم على ذلك وسلكهم في سلك هؤلاء المعظمين بل قدمهم عليهم وجعلهم من الوارثين « الذين يرثون الفردوس » فعرفنا ان رعايتها « يعني رعاية الأمانة » معتبرة وقدرها جليل وشأنها عظيم وبالجملة الخيانة في هذه الأمانة هي إيداعها عند غير أهلها ، وامساكها عن أهلها ، وكلاهما غير جائز وإليه أشار جل ذكره في قوله ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ) أي « لا تخونوا الله والرسول » بإيداع أسرارهم عند غير أهلها « وأنتم تعلمون » عاقبة الخائن وصعوبة عذابه وشدة عقوبته : ( ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) اي ذلك القول « وصاكم به
__________________
(١) راجع تفسير الميزان : ١٦ / ٣٥٦ ، حيث فيه القول الفصل لهذا الموضوع.