الأبصار رؤيته (١) ، ومن الألسن صفته (٢) ، ومن الأوهام كيفيته ، ابتدع الأشياء لا من شيء كان قبلها (٣) ، وأنشأها بلا احتذاء أمثلةٍ امتثلها (٤) ، كونها بقدرته ، وذرأها بمشيتهِ ، من غير حاجةٍ منه إلى تكوينها ، ولا فائدة له في تصويرها إلاّ تثبيتاً لحكمته ، وتنبيهاً على طاعته (٥) ، وإظهاراً لقدرته ، وتعبداً لبريته (٦) ، وإعزازاً لدعوته (٧). ثمَّ جعل الثواب على طاعته ، ووضع العقاب على معصيته ، ذيادةً لعباده عن نقمته (٨) ، وحياشةً منه إلى جنته (٩). أشهد أن أبي محمداً صلىاللهعليهوآلهوسلم عبده ورسوله ، اختاره وانتجبه قبل أن أرسله ، وسماه قبل أن اجتَبَلَهُ (١٠) ، واصطفاه قبل أن ابتَعَثَهُ ، اذ الخلائق بالغيب مكنونة وبستر الأهاويل مصونة (١١) ، وبنهاية العدم مقرونة ، علما من الله تعالى بمآيل
__________________
(١) يمكن أن يقرأ « الأبصار » بصيغة الجمع ، والمصدر ، والمراد بالرؤية العلم الكامل والظهور التامّ.
(٢) الظاهر أنَّ الصفة هنا مصدر ، ويحتمل المعنى المشهور بتقدير ، أي بيان صفته.
(٣) « لا من شيء » أي مادة.
(٤) احتذى مثاله : اقتدى به. « وامتثلها » أي تبعها ولم يتعدَّ عنها ، أي لم يخلقها على وفق صنع غيره.
(٥) لأن ذوي العقل ينتبَّهون بمشاهدة مصنوعاته بأن شكر خالقها والمنعم بها واجب وأنَّ خالقها مستحق للعبادة ، أو بأنَّ من قدر عليها بقدر على الإعادة والانتقام.
(٦) أي خلق البريّة ليتعبّدهم ، أو خلق الأشياء ليتعبد البرايا بمعرفته والاستدلال بها عليه.
(٧) أي خلق الأشياء ليغلب ويظهر دعوة الأنبياء إليه بالاستدلال بها.
(٨) الذود والذياد ، بالذال المعجمة : السوق والطرد والدفع والإبعاد.
(٩) حشت الصيد أحوشه : إذا جئته من حواليه لتصرفه على الحبالة ، ولعل التعبير بذلك لنفور الناس بطباعهم عما يوجب دخول الجنة.
(١٠) الجبْل : الخلق ، يقال : جبلهم الله أي خلقهم ، وجبله على الشيء أي طبعه عليه ، وعلى المعنى أنَّه تعالى سماه لأنبيائه قبل أن يخلقه * ؛ ولعل زيادة البناء للمبالغة تنبيها على أنه خلق عظيم. وفي بعض النسخ بالحاء المهملة ، يقال : احتبل الصيد ، أي أخذه بالحبالة ، فيكون المراد به الخلق أو البعث مجازاً ، وفي بعضها « قبل أن اجتباه » أي اصطفاه بالبعثة ، وكلّ منها لا تخلو من تكلف.
* قال السيوطي في « الاتقان » ج ٢ / ص ١٤١ : اخرج ابن أبي حاتم عن عمرو بن مرة قال : خمسة سموا قبل أن يكونوا : محمد : ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد ...
(١١) لعل المراد بالستر ستر العدم ، أو حجب الأصلاب والأرحام. ونسبته إلى الأهاويل لما يلحق الأشياء في تلك الاحوال من موانع الوجود وعوائقه ويحتمل ان يكون المراد انها كانت مصونة عن الأهاويل بستر العدم إذ هي إنّما تلحقها بعد الوجود. وقيل : التعبير بالأهاويل من قبيل التعبير عن درجات العدم بالظلمات.