ثمّ ضرب سبحانه مثلين للحقّ وأهله والباطل وأهله ، فقال : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ) من السحاب ، أو من جانب السماء ، أو من السماء نفسها ، فإنّ المبادئ منها (ماءً) مطرا (فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ) أنهار. جمع واد. وهو الموضع الّذي يسيل الماء فيه بكثرة ، فاتّسع فيه واستعمل للماء الجاري فيه. وتنكيرها لأنّ المطر يأتي على تناوب بين البقاع ، فيسيل بعض الأودية دون بعض.
(بِقَدَرِها) بمقدارها الّذي علم الله تعالى أنّه نافع غير ضارّ. أو بمقدارها في الصغر والكبر ، أي : الصغير على قدره والكبير على قدره ، فسال كلّ نهر بقدره (فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً) رفعه. والزبد وضر (١) الغليان (رابِياً) أي : منتفخا مرتفعا.
فشبّه سبحانه الحقّ والإسلام بالماء الصافي النافع ، والباطل بالزبد الذاهب غير النافع.
ثمّ ذكر المثل الآخر بقوله : (وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ) عبارة جامعة لأنواع الفلزّات ، كالذهب والفضّة والحديد والنحاس ، مع إظهار الكبرياء في ذكره على وجه التهاون به ، كما هو هجّير (٢) الملوك (ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ) طلب حليّ (أَوْ مَتاعٍ) كالأواني وآلات الحرب والحرث. والمقصود من ذلك بيان منافعها (زَبَدٌ مِثْلُهُ) أي : وممّا يوقدون عليه زبد مثل زبد الماء ، وهو خبثه. و «من» للابتداء أو للتبعيض. وقرأ حمزة والكسائي وحفص بالياء ، على أنّ الضمير للناس. وإضماره للعلم به.
(كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ) مثّل الحقّ والباطل ، فإنّه مثّل الحقّ في إفادته وثباته بالماء الّذي ينزل من السماء ، فتسيل به الأودية على قدر الحاجة والمصلحة ، فينتفع به أنواع المنافع ، ويمكث في الأرض ، بأن يثبت بعضه في
__________________
(١) الوضر : خبث الغليان ، ووسخ الدسم.
(٢) الهجّير : العادة والدأب.